واشنطن تعيد رسم استراتيجيتها الكونية وللصين نصيب من «الاحتواء» و «التطويق» !
ماجد الشيخ
أعاد استخدام وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس في منتصف آذار (مارس) 2006 الماضي لتعبير «إحتواء الصين» في سياق نفيها لوجود سياسة كهذه، أعاد إلى الاذهان سياسة الاحتواء والاحتواء المزدوج التي اتبعتها الولايات المتحدة تجاه إيران ومن ثم العراق وإيران في ما بعد، خلال سنوات أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات وصولاً إلى إحتلال العراق. هذه السياسة تعود اليوم لتشكل عماد «الاستراتيجية الكونية» للولايات المتحدة، خصوصاً في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) الارهابية وتداعياتها. بوارج من اسطول اميركي نفت رايس في محطتها الاسترالية، وأثناء لقاءات لها مع وزراء خارجية كل من استراليا واليابان، لوجود «سياسة احتواء» تجاه الصين، حمل في طياته تأكيداً لوجود خلافات مع حليفتها الأوثق استراليا التي تنظر إلى بكين باعتبارها توفر «فرصة اقتصادية» أكثر من تشكيلها «تهديداً عسكرياً»، وذلك حينما أكد وزير الخارجية الاسترالي الكسندر داونر رفض بلاده سياسة الاحتواء في التعامل مع الصين، واصفاً هذه السياسة بأنها «خطأ كبير». رافضاً بيع اليورانيوم إلى الهند على رغم توقيع واشنطن ونيودلهي اتفاق تعاون نووي مدني بينهما، وذلك على خلفية عدم توقيع الهند أو انضمامها إلى معاهدة الانتشار النووي. وعلى رغم نفي رايس، فقد بدأت تتكشّف مضامين «خطة احتواء الصين»، التي لم تكن اكثر من" تعبير دبلوماسي" لسياسة استراتيجية تسعى واشنطن عبرها إلى تطويق الصين عسكرياً، وتمثلت هذه الخطة مؤخراً في ازدياد وتيرة التحذيرات والانتقادات الأميركية للصين، إلى حد التشهير بالتوجهات الصينية، واتهامها بعسكرة سياساتها الخارجية. وذلك حين تساءل تقرير صدر عن وزارة الدفاع الاميركية (البنتاغون) 23/5/2006 عن الهدف من التعزيزات العسكرية الصينية التي رأى أنها مازالت من دون إجابة، محذراً من أن المقدرات العسكرية المتنامية للصين ربما تمثل تهديداً في منطقة آسيا. ولم يكتف التقرير بذلك، بل أشار إلى أن قادة الصين لم يوضحوا على نحو ملائم حتى الآن، الغرض مما اسماه «التوسع العسكري»، وأن العالم الخارجي «لايملك سوى معلومات قليلة في شأن الحوافز الصينية وصنع القرار أو في ما يتعلق بقدرات الصين الرئيسة». ولفت إلى أن بكين واصلت تركيزها على تايوان، لكنها زادت الانفاق على الطائرات والسفن والصواريخ، ما يعني حسب التقرير إمكان أن تمتلك ما أسماها «قدرات عسكرية خارجية»، وأن الصين عززت قواتها البرية المنتشرة في مواجهة تايوان. وحذر من أن سعي الاتحاد الاوروبي إلى إلغاء الحظر العسكري على الصين يمكن أن يزود بكين بأنظمة تسلح حديثة. واحتدم خلاف أميركي – إسرائيلي في شأن صفقة أسلحة إسرائيلية إلى الصين، رده معلقون في الشؤون العسكرية الاسرائيلية الى منافسة تجارية بين الصناعات العسكرية الاسرائيلية وشركات أميركية، يغيظها أن يبلغ حجم التصدير العسكري الاسرائيلي إلى الصين 4 مليارات دولار سنوياً. إلا أن واشنطن عادت في ما بعد لتبرر بيع أسلحة إسرائيلية إلى الصين، بالقول ان تل أبيب لم تكن تدرك مدى التهديد الاستراتيجي الصيني، وذلك في أعقاب موافقة الحكومة الاسرائيلية على وقف الصفقة التي أثارت حفيظة الولايات المتحدة. كوندوليزا رايس ووسط الجلبة الاميركية المتصاعدة هذه، لم تخف الصين توجهاتها لتعزيز سياسة ردع عسكرية دفاعية، في ظل تعقيدات إقليمية، باتت تتجاوز حدود الانطواء التي اتسمت بها سياسات دول المنطقة، وبروز تحديات أمنية جديدة، في ضوء التطورات التي بات يفرضها البرنامج النووي الكوري الشمالي، والفشل المتكرر للمباحثات السداسية في شأنه، وتعزيز التحالف الاميركي – الياباني، وتخوف بكين من دعم القوى الانفصالية في تايوان. في وقت شكل إعلان اليابان نيتها إنشاء وزارة للدفاع، تحولاً طارئاً جديداً في المنطقة، مترافقاً مع رغبة الحكومة اليابانية في تعديل الدستور، وبخاصة الفقرة التاسعة منه، لتتلاءم مع مثل هذا التحول، بحيث يتيح حرية تحرك أكبر للقوات اليابانية في الخارج، وهو الأمر الذي كان مدار رفض الشعب الياباني طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وفيما يمكن اعتباره رد بكين على مجموع هذه التحديات، فقد أكدت الصين في كتابها الابيض حول الدفاع (29/12/2006)، وهي الوثيقة الخامسة من هذا النوع التي تنشر منذ عام 1998، رغبتها في تكوين جيش قوي وعصري. وتذكر الوثيقة ان بكين مصممة على اتباع سياسة عسكرية محض دفاعية أو ردعية، في ما يتعلق بالشق النووي. وبهدف ضمان أمنها، تشير إلى رغبتها في بناء دفاع وطني قوي، وتحسين أداء قواتها البالغ عديدها 2.3 مليون عسكري، لا سيما من خلال التطور التكنولوجي والمعلوماتي مع التركيز على القوات البحرية التي تشكل الحلقة الضعيفة في القوات المسلحة الصينية. وهو الأمر الذي دفع الرئيس الصيني هوجينتاو للإعلان عن خطط لبناء اسطول بحري عسكري ضخم، يتناسب مع الحاجات والمهمات العسكرية التاريخية خلال هذا القرن الجديد والمرحلة الجديدة، وليكون جاهزاً للتدخل في النزاعات العسكرية «في أي وقت». ويتضح من المواقف الاميركية، ان واشنطن بدأت تزيد من اهتمامها وترفع من وتائر تحذيراتها، على خلفية ما كانت تمهد له من إعلان «خطة تطويق الصين» التي صادق الرئيس جورج بوش على المرحلة الاولى منها، والذي عمل وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد على وضعها ويعتبر مهندسها الرئيس، فيما عينت وزارة الخارجية نائب الوزير روبرت زوليك الذي قاد ثلاث جولات من المحادثات الاستراتيجية مع الصين خلال الربع الاول من هذا العام، مندوباً عنها في تطبيق الخطة، التي ستعطي القوات الاميركية المتواجدة في آسيا وأجزاء أخرى من العالم، سرعة أكبر للتدخل في الأزمات الدولية التي تشمل الصين وكوريا الشمالية وإيران. وفي هذا الإطار جاء الاتفاق الاميركي – الياباني في الثاني من أيار (مايو) الماضي بهدف تعزيز تحالفهما الأمني، ضمن خطة شاملة نهائية لإعادة هيكلة القوات الاميركية في اليابان لتحسين الدفاع الصاروخي، وتبادل معلومات استخباراتية. كما تعهد كبار المسؤولين في الشؤون الدفاعية والدبلوماسيين اليابانيين والاميركيين بالعمل معاً على وقف الطموحات النووية لإيران وكوريا الشمالية، وأبدوا قلقهم المشترك من غياب الشفافية في برنامج الحشد العسكري الصيني. وأكدت صحيفة «اساهي شامبيون» اليابانية (26/12/2006) ان واشنطن طلبت منحها حق اقامة رادارات مضادة للصواريخ في اليابان من اجل منع كوريا الشمالية من شن هجوم محتمل، وبهدف تحسين مراقبة الصواريخ الكورية الشمالية الذاتية الدفع وتتبعها، في حال استهدفت القوات الاميركية في اليابان وكوريا الجنوبية ايضاً. وتتعاون طوكيو وواشنطن في توفير نظام دفاعي مشترك مضاد للصواريخ، منذ ان عبر صاروخ كوري شمالي أجواء اليابان في تجربة نفذت عام 1998، لكن راداراً نصب شمال اليابان، أخفق في رصد اختبارات لصواريخ باليستية اطلقتها بيونغ يانغ في تموز (يوليو)2006 الماضي، بسبب مراقبة الصواريخ المتجهة الى الأراضي الأميركية فقط، فيما سقطت هذه الصواريخ في بحر اليابان . دونالد رامسفيلد وكانت صحيفة «واشنطن تايمز» ذكرت في (20/4/2006) أن وزارة الدفاع الأميركية تعمل على رفع القدرات العسكرية للقوات الأميركية في المحيط الهادئ في إطار إستراتيجية سرية لتقوية موقعها ومواقع الدول الحليفة لها، استعداداً لمواجهة التهديد الذي يشكله تطور الجيش الصيني، موضحة أن جزيرة غوام ستكون رأس الحربة في «إستراتيجية تطويق الصين» التي تتضمن وضع حاملات طائرات نووية وقاذفات قريباً من أهداف في الصين وأخرى في آسيا. وكانت واشنطن سعت خلال السنوات الماضية إلى تحديث وتغيير مواقع قواتها العسكرية، حيث عززتها في منطقة آسيا – المحيط الهادئ على حساب أوروبا، كما أعادت تنظيم تحالفها العسكري مع اليابان، وعززت علاقاتها العسكرية مع الهند ودول أخرى في آسيا الوسطى وجنوب شرقي آسيا. وقرر الجيش الأميركي نقل حوالى ثمانية آلاف جندي منتشرين حالياً في جزيرة أوكيناوا في جنوبي اليابان إلى قاعدة غوام بحلول العام 2012 وتدريب جنود على تعلم اللغة الصينية. كما سترسل البحرية سادس حاملة طائرات إلى المحيط الهادئ، وقررت نشر 52 غواصة هجومية (تحوي كل واحدة على 150 صاروخ كروز)، أي ما يعادل 60 في المئة من أسطولها في هذه المنطقة بحلول العام 2010. ويتم استثمار مليارات الدولارات ايضاً لاقتناء مقاتلات «أف 22» الباهظة الثمن، وتطوير قاذفة جديدة تستطيع العمل على نطاق واسع. وبموجب الاتفاق تعهد الاميركيون واليابانيون التنسيق في ما يتعلق بنشر نظم صواريخ «باتريوت» و «بي ايه سي3» المضادين للصواريخ في اليابان في أسرع وقت. ويأمل الأميركيون في أن تكون إستراتيجيتهم لتطويق الصين، دافعاً لتطوير أنظمة قادرة على مواجهة أسلحة الصين الفضائية، باعتبارها «خطراً مستقبلياً» على أن يتم تحويل قاعدة غوام إلى مركز حيوي للقاذفات من نوع «ب 12» وطائرات الاستطلاع والدعم اللوجستي. فيما طالب البنتاغون الجيش بتنمية مهارات العسكريين في اللغة الصينية، وتطويع متحدثين بالصينية، يستطيعون إذا احتاج الجيش القيام باتصالات بهذه اللغة. وتأتي عملية التطويع هذه في إطار خطة لتعليم العسكريين الاميركيين اللغة الفارسية والعربية أيضاً. وبالتوازي مع الاعلان عن إستراتيجية تطويق الصين، حفلت الفترة السابقة، بالكشف عن شتى أنواع الوثائق الصادرة عن البنتاغون، في سياق إجراء تغييرات وتعديلات في العقيدة العسكرية الاميركية، أبرزها تلك الوثيقة التي أعدتها لجنة في وزارة الدفاع الأميركية في شأن إمكانية تعديل سياسة الولايات المتحدة النووية، القاضية بالسماح بتوجيه ضربات نووية مباغتة، إلى أعداء حكوميين أو غير حكوميين، لمنعهم من استخدام أسلحة دمار شامل. وفي المراجعة الرباعية للدفاع للعام 2006، كشف البنتاغون أنه في صدد تسريع خطط لتطوير اسلحة قادرة على ضرب أي هدف في العالم، محذراً من تنامي قوة الصين العسكرية التي اعتبرها إخلالاً في «التوازن الاقليمي»، وفي هذه المراجعة جرى التطرق إلى احتمال دخول الولايات المتحدة في حرب طويلة الأمد، وعلى جبهات عدة في إطار الحرب على الارهاب، وتحولها إلى حرب باردة عسكرية أُطلقت عليها تسمية «الحرب الطويلة». هوجينتاو وتتناول ميزانية البنتاغون للعام الجاري تفاصيل الخطة العسكرية التي تتحدث عن نوع جديد من الحروب التي قد تستغرق حتى الاربعين عاماً، وفي سياقها لم تنس الخطة الحديث عن القدرات العسكرية للصين التي باتت تمتلك عجلة اقتصادية منافسة في شكل كبير، ما دفع رامسفيلد يومها لتبرير موازنته بالقول أن «رخاء الاميركيين يكمن في أمنهم .. وهذا يتطلب استثمارات»، حيث نصت موازنة العام 2007 على إنفاق 5.1 مليار دولار على القوات الخاصة وزيادة عديدها 14 ألفاً حتى 2011 لتضم بذلك 64 ألف جندي. كما تخصص 6.6 مليار دولار لتحويل فرق الجيش البري إلى وحدات قتالية أصغر حجماً وأكثر استقلالية وقدرة على الانتشار، ويوظف البنتاغون 3.7 مليار دولار لتطوير النظام القتالي للمستقبل، وهو برنامج للمعدات العسكرية، وشراء 322 طائرة من دون طيار في السنوات الخمس المقبلة. هذا غيض من فيض خطط وأرقام «الاقتصاد الاستثماري» لسياسات العقيدة العسكرية للبنتاغون الأميركي الساعية ليس إلى احتواء تطور العديد من مناطق العالم، بل وتعويقها وتعطيل نموها وإيقافه عند حدود الارتباط بمحددات خارجية، تحاول التحكم بمسار العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية بين دول تحتم مصالحها المشتركة أكثر من التعاون وفي كل المجالات، وهذا يفترض الاستقرار وإقرار سياسات الأمن المتبادل، والتعاطي بإيجابية مع المنظمات الاقليمية خصوصاً في منطقة آسيا وجنوب شرقيها، حيث تعاني الولايات المتحدة عجزاً متنامياً في «شرعيتها» جراء مواقفها السلبية من التعاون مع دول «آسيان» كشركاء حقيقيين، وذلك على العكس من الصين التي قدّمت بسياساتها الانفتاحية المتزايدة على جيرانها الآسيويين، وضمن صيغ تحالفاتها الاقليمية، خصوصاً إزاء قضايا التنمية الاقتصادية والبشرية وتبادلاتها التجارية، واحداً من نماذج التعاون القابلة للتطور، في مواجهة تحديات الارهاب والعولمة المتوحشة والعسكرة المتزايدة. ويبقى على اليابان الاتعاظ من دروس التاريخ إزاء علاقاتها بجيرانها، خصوصاً الصين، إذ أن خطة التطويق الأميركية لا تستهدف أبعد من المصالح الأنانية لمحافظي البيت الابيض من «رسوليي» الهيمنة في وعيهم أو لا وعيهم المستفيق على حرب باردة جديدة، ولكن قد تكون عسكرية هذه المرة، إذا ما استمروا بالنفخ في أبواق الحروب والعسكرة التي لا مصلحة لشعوب العالم فيها بالتأكيد. * كاتب فلسطيني و كل ذلك بحسب المصدر المذكور نصا و دون تعليق. المصدر: الحياة اللندنية-9-1-2007
|