هل يكون القرن 21 صينيا؟

 

 

سعد محيو

 

 

لم يُـخطِـئ من تنبّـأ بأن تمخّـضات الصين، هي التي ستُـحدد طبيعة القرن الحادي والعشرين وشكله.

ولم يجانب الصّـواب من اعتقد بأن هذا سيحدُث سريعاُ، وليس بعد عقدين أو ثلاثة، كما تكهّـن العديد من المحلِّـلين الاستراتيجيين الأمريكيين.

الأدلة؟ إنها كثيرة بعضها: وثائق الأمن القومي الأمريكي، الصادرة منذ عام 2001، تُـكرر كلها بلا ملل، بأن الصين لن تكون "الحليف الاستراتيجي" للولايات المتحدة، بل خصمها ومنافسها الأول في العالم. والبنتاغون يبني الآن كل خططه العسكرية على هذا الأساس.

الوثيقة الأمنية اليابانية الأخيرة، التي اعتبرت هي الأخرى، وللمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة، أن الصين "تشكّـل مصدر قلق للأمن القومي الياباني"، وهذه حصيلة ستكون لها عمّـا قريب، مضاعفات كُـبرى على مسألة إعادة تسليح اليابان.

الجهود الأمريكية الحديثة لإنهاء ورطة الهند مع باكستان في جنوب آسيا، الهدف منها: تحويل الهند إلى قوة كبرى قادرة على موازنة الصين في شرق آسيا.

اندلاع الخلافات الحادّة مجدَّدا بين الولايات المتحدة وأوروبا، ولكن هذه المرة، ليس بسبب العراق وأزمة الشرق الأوسط، بل بسبب قرار الاتحاد الأوروبي باستئناف بيع الأسلحة إلى الصين بعد توقّـف دام نيفاً و16 عاما، إثر أحداث ساحة تيان آن مين.

وماذا أيضاً؟ هناك بالطبع، الجهود الأمريكية المكثّـفة لتطويق الصِّـين بقواعد عسكرية في كل مكان، من بحر الصين وتايوان واليابان، إلى بحر قزوين وجمهوريات آسيا الوسطى، مروراً بمحاولة إجهاض كل مساعي الصين، لتأمين خطوط إمدادات طاقة آمنة لاقتصادها السائر نحو العملقة.

القلق

كل هذه التطورات لا تعني فقط أن الوضع الدولي بدأ يرقص بالفعل وبشكل متزايد على إيقاع موسيقى صينية، بل تُـشير أيضاً إلى أن الغرب الأمريكي، بدأ يشعر بقلق تاريخي على مصيره (أو بالأحرى على مصير زعامته العالمية)، من جراء صعود الصين.

كتبت دورية "فورين أفيرز": "إن انتقال القوة من الغرب إلى الشرق، يحُـث الخُـطى بشكل سريع وسيغيّر قريبا على نحو درامي، إطار التعاطي مع التحديات الدولية. العديد في الغرب واعُـون سلفاً لنموِّ قوة الصين وآسيا، بيد أن هذا الوعي لم يُـترجِـم نفسه إلى استعداد. وهنا، يكمُـن مكمَـن الخطر بأن تكرّر القوى الغربية أخطاء الماضي".

وكتب ستيفن راوش في "فاينانشال تايمز"، "الصين تقود الطريق في سباق التنمية الاقتصادية، وتدشن نوعاً آخر، أوسع وأقوى من العولمة. إنها بدأت تهدد التفوّق الأمريكي نفسه".

هل تعني هذه "الاستفاقة" المفاجئة على حقيقة صعود آسيا، أن الغرب الأمريكي سينقض قريبا على الشرق الصيني لمنعه من الوصول إلى نقطة تحدّي زعامته العالمية؟

سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. قبل ذلك، إشارة إلى أن مخاوف الغرب في محلها تماما.

فالصين والهند واليابان، ومعها باقي النمور الآسيوية، التي تزأر بقوة الآن على ضِـفاف المحيطين، الهادي والهندي، باتت تشكِّـل بالفعل دينامو الاقتصاد العالمي و60% تقريبا من التجارة الدولية.

الاقتصاد الصيني لا يزال ينمو بأكثر من 9% سنوياً، والهند 8%، ونمور جنوب شرق آسيا استعادت عافيتها من أزمة 1997 المالية واستأنفت مسيرتها قُـدما إلى الإمام، ويُـتوقع أن يصبح اقتصاد الصين ضعف حجم اقتصاد ألمانيا في عام 2010، وأن يتغلّـب على اقتصاد اليابان (التي هي الآن ثاني أكبر اقتصاد في العالم) عام 2020.

وإذا ما واصلت الهند النمو بمعدل 6% سنويا طيلة السنوات الخمسين المقبلة، (وهو ما يعتبره المحللون الماليون ممكنا)، فإنها ستتساوى مع الصين أو حتى تتفوّق عليها في ذلك الوقت.

نمُـو الصين المُـذهل، يُـحتمل أن يستمر لعقود مقبلة، إذا ما تمكّـنت من مواجهة التمزقات الضّـخمة، التي يتسبّـب فيها النمو الرأسمالي السريع، مثل الهجرة الداخلية من الأرياف إلى المدن، والمستويات العالية من البطالة، والديون المصرفية الكاسحة.

بيد أن الصين، على أي حال، نجحت في إدخال تعديلات واسعة على الطبعة الكلاسيكية الغربية الخاص بالتنمية التي تقودها الصناعة، عبر تميّـز تصنيعها بأربع سمات خاصة بها هي: معدّلات إدّخار مرتفعة بلغت 43% وتقدّم كبير في بناء البُـنى التحتية وتدفق من الاستثمارات الأجنبية واحتياطي ضخم من القوة العاملة النشطة والرخيصة.

أما الدول الآسيوية الأخرى، فكانت مُـندمجة أصلا في الشبكة الأوسع لاتفاقيات التجارة والاستثمارات العالمية، ولكن على عكس ما كان في الماضي الصين، وليس اليابان أو الولايات المتحدة، هي الآن المركز بالنسبة لهذه الدول. ومنظمة "آسيان"، التي تضمّـها، تدرس جدِّيا الآن إقامة إتِّـحاد نقدي. وحصيلة ذلك، هي بروز تكتّـل تجاري ضخم، سيكون مسؤولا عن الكثير من النمو الاقتصادي في آسيا والعالم كله.

ضربة إستباقية؟

نعود الآن إلى سؤالنا الأولي: هل يوجّه الغرب "ضربة إستباقية" للشرق؟

على السطح (أي ظاهريا)، لا يبدو أن ثمّـة قرارا بعدُ في هذا الشأن. فالغرب وشركاته العملاقة، يبدو سعيداً بضمّ الشرق إلى عولمته، كما يبدو أسعد مع انفتاح أسواق عملاقة أمامه، تضم أكثر من نصف البشرية.

لكن تحت السّـطح، ثمة شيء ما يغلي في عواصم الحضارة الغربية، خوفا من أن تُـترجِـم القوة الاقتصادية الآسيوية نفسها إلى قوة سياسية - عسكرية، لأن هذا قد يدق ناقوس الموت بالنسبة لحقبة الزعامة الغربية للعالم، التي استمرت 500 عام. لكن، وفي حال قررت أمريكا كبح جماح هذا الصعود الصيني، ماذا في وسعه أن يفعل؟

يقول محللون أمريكيون أنه، لو لم تقع أحداث 11 سبتمبر 2001، لكانت أمريكا والصين تقِـفان الآن على شفير هاوية المواجهة كخصمين إستراتيجيين، لا كشريكين تجاريين وأمنيين (ضد الإرهاب)، كما هو الحال الآن.

هذه الحصيلة ليست قفزة تنبُّـؤية في عالم افتراضي، بل هي قراءة لأدبيات فريق بوش المتكوّن برمّـته تقريبا من المحافظين القوميين والمحافظين الجدد.

هذا الفريق يُـطل على الصين بوصفها منافسا جدّياً مُـحتملا للزعامة الأمريكية في العالم، تماما كما كانت ألمانيا في النصف الأول من القرن الماضي (مما تسبّب بحربين عالميتين)، وكما كانت روسيا في النصف الثاني من القرن نفسه (مما تسبّب بحرب عالمية ثالثة باردة).

في كلا هذين الأنموذجين، كانت ألمانيا وروسيا تحاولان العثور على مكان تحت الشمس في النظام العالمي القائم آنذاك، وتسعيان إلى الانتقام من مظالم تاريخية لحقت بهما. بيد أن أمريكا الصاعدة بدروها، كانت لهما بالمِـرصاد وقصمت ظهرهما في حروب وسِـباقات تسلّـح مُـدمّرة.

وبالتالي، حين يقارن المحافظون والمحافطون الجدد، صين القرن الحادي والعشرين بألمان وروس القرن العشرين، يكون الهدف واضحاً: الحث على توجيه "ضربات إستباقية تاريخية" إلى بلاد الهان والماندرين، قبل أن تنمو إلى الدرجة التي تبدأ فيها بتهديد النظام العالمي الأمريكي.

والشعار الذي يرفعه هؤلاء (وفق "فورين أفيرز")، هو أن "الحقيقة الإستراتيجية الراهنة في آسيا، تدُلّ على وجود مصالح حيوية متنافرة للغاية بين الصين وأمريكا، ستدفعهما في النهاية إلى أن تكونا متنافستين. وتبعا لذلك، الأجدى، أن نستبق نحن الأمور، قبل أن يسبقنا الصينيون إليها".

11 سبتمبر إذن، أرجأ رسم خطوط المجابهة بين هذين العملاقين، لكنه لم يلغه. فالمخططون في إدارة بوش يتابعون تخطيطاتهم الصينية، حتى وهم في ذِروة اندفعاتهم الشرق أوسطية، لا بل يعتقد بعض المحللين، وهم على حق في اعتقادهم، بأن جُـزءا أساسيا من اندفاع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط الكبير، هدفها إحكام الطّـوق على الصين، وهذا واضح بشكل كامل في الحصون التي تُـقيمها واشنطن الآن على عجل في آسيا الوسطى، على مرمى حجر من الوطن الصيني، وواضح بشكل أقل كَـمالا في سيطرتها المباشرة على نفط العراق الذي كانت الصين المتعطشة بشدّة إلى الطاقة الأحفورية على تحويله (جنبا إلى جنب مع نفط آسيا الوسطى والسودان) إلى احتياطي إستراتيجي لها.

بيد أن هذا ليس كل ما في جُـعبة الأمريكيين ضد الصينيين:

ففي وسع واشنطن لعب ورقة اليابان ضد الصين، مستفيدة من الحقيقة التاريخية بأن هاتين الدولتين كانتا تنهضان دوما على حساب بعضهما البعض. فلأكثر من خمسة آلاف سنة، كانت الصين هي القوية والغنية، فيما اليابان هي الضعيفة والفقيرة. وحين حققت اليابان نهضتها المذهلة مع إصلاحات ميجي في أواسط القرن التاسع عشر، نجحت أساسا، لأن العملاق الصيني كان مخدّرا بحرب الأفيون البريطانية، ومدمّرا بحروبه الأهلية الداخلية. الرهان الأمريكي هنا واضح: آسيا الصاعدة لن تستطيع مواصلة صعودها برأسين، صيني وياباني. لابد لأحد الرأسين في النهاية من أن يتخلّـص من الآخر.

وفي مقدور أمريكا تحريك الهند ضد الصين، عبر اعتماد الأولى، كبريطانيا جديدة، في آسيا وتزويدها بالعَـتاد والثقة بالنفس الكافيتين لمنازعة بايجينغ على زعامة منطقة آسيا - المحيط الهادي. وهنا أيضا، الرهان واضح، فهذان العملاقان لا يثقان البتّـة ببعضهما البعض، وخلافاتهما الحدودية المستمرة منذ 50 عاما، لم تحل بعد، كما أنهما يتنافسان على أسواق واحدة ومجال حيوي إستراتيجي واحد.

ثم أنه يمكن لواشنطن تفجير العديد من الأزمات الإقليمية في تايوان وشبه جزيرة كوريا وكشمير وجزر جنوب بحر الصين، إضافة إلى تأجيج الخلافات الداخلية داخل الزعامة الصينية، من خلال إرهاق بايجينغ في سِـباق تسلّح، يستنزف طاقاتها ويفجّـر تناقضاتها السياسية والاقتصادية.

أي رد صيني؟

هذا ما يمكن أن تفعله أمريكا بالصين، لكن ماذا في وسع الصين أن تفعل؟ ما تقوم به الآن: الادّعاء بأنها تضع الاعتبارات الأمنية والاسترايتجية والسياسية وراءها، والتركيز على الاعتبارات الاقتصادية والاندماج في الاقتصاد العالمي.

هذا التوّجه، ما زال ناجعا تكتيكيا، وهو يمكن أن يتحوّل أيضا إلى نجاح إستراتيجي، إذا ما تمكّـنت الصين من تحقيق أمرين إثنين: الأول، إقامة تكتّـل نقدي – اقتصادي إقليمي ضخم، من خلال منظمة "آسيان"، ثم العمل على تحويل المنطقة إلى إتحاد سياسي على الطِّـراز الأوروبي.

والثاني، ابتداع الحُـلول الخلاّقة لإقامة تعايُـش سِـلمي ووِفاق ودّي مع كل من الهند واليابان، وتسوية النزاعات الإقليمية وصراعات الحدود والبِحار مع باقي دول آسيا.

قد تبدو هذه مهمّـة صعبة، لكنها ليست مستحيلة، إذا ما قدّمت الصين نفسها التنازلات الضرورية لتحقيقها.

وعلى أي حال، مثل هذه التنازلات ستكون أقل كُـلفة بما لا يُـقاس من الخسائر الهائلة، التي يمكن أن تتكبّـدها بايجينغ، إذا ما نجحت واشنطن في جرّها إلى ساحات النزال العديدة.

الفرصة قائمة الآن، لكنها قد تتبدّد حال استفاقة الأمريكيين من صدمة 11 سبتمبر، وهذا قد يحدُث بأقرب مما يتوقّـع الكثير من الصينيين!

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق.

المصدر:سويس إنفو-2-1-2007