الهند و كيفية صعودها كقوة كونية...دراسة شاملة
Teresita C. SchafferjHgdt إعداد : إيمان عمر
صعود الهند كقوة كونية يستعرض هذا التقرير مجمل العوامل التى ساهمت فى بروز نجم الهند سياسياً، اقتصادياً وعسكرياً. والتى بدأت مرحلة مخاضها فى بداية الثمانينيات من القرن العشرين، واكتمل تبلورها فى عام 2000 تزامناً مع الزيارة التاريخية للرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون إلى نيودلهى. ولقد أفرزت تلك العوامل، فضلاً عن مستجدات مرحلة ما بعد الحرب الباردة، تغيرات دراماتيكية فى علاقات الهند الإقليمية والعالمية والتى يعد التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية أبرزها. الأمر الذى دفع الهند إلى إعادة تحديد أهداف سياستها الخارجية بما يتلاءم والمعادلات الدولية الجديدة، لتتبوأ مكاناً ريادياً فى المنظومة العالمية. أولاً: التحولات الداخلية أ-النمو الاقتصادى للهند من منظور قريب اتسم أول تحولين تشهدهما الهند بمحلية الطابع والانطلاق من الاقتصاد، فقد توقعت إحدى الدراسات التفصيلية التى أجراها بنك Deutsche بشأن تطور الاقتصاد الهندى وآفاقه المستقبلية، بأن يشهد جملة من التطورات، لعل أهمها: ارتفاع متوسط الناتج المحلى الإجمالى إلى 6% فى الفترة الممتدة من 2006 وحتى 2020، توسع القطاع الصناعى خاصة ذلك القائم على تكنولوجيا المعلومات، وانخفاض معدل النمو السكانى إلى 1.3%. وثمة مظاهر ثلاثة أخرى شهدها الاقتصاد الهندى خلال العقدين الماضيين، على قدر كبير من الأهمية، نعرضها كالتالى: التفاوت بين الولايات لقد فاقت معدلات النمو الاقتصادى فى ولايات الجنوب والغرب مثيلاتها بالشمال والشرق. ففى جوجارات، التى تعد أسرع الولايات نمواً، تضاعف معدل النمو الإجمالى فيما بين عامى 1993 و 2003، كما ارتفع معدل الناتج الفردى بمقدار 73% على خلاف ولاية أوتار براديش التى لم يتجاوز معدل الناتج الفردى بها 13% خلال ذات الفترة الزمنية. أما فى ولايت بيهار، أشد الولايات فقراً، فقد بلغ 22% فقط. وفى السنة المالية 2001/2002 بلغ معدل الناتج الفردى فى جوجارات 3.8%، أى أضعاف مثيله فى بيهار. هذا التفاوت، أوقع الولايات الأكثر ديناميكية فى نزاع بين الرجاء فى استمرار التقدم المطرد، والإشفاق من أن تجرفها تيارات التدهور فى باقى ولايات الدولة. حيث تتمتع حكومات العديد منها بهامش كبير من الحرية والاستقلال السياسى فى إدارة شؤون الاستثمار وغيره من القضايا الاقتصادية. وبالمقابل، فإن الولايات التى تعانى من تباطؤ معدلات النمو، تشمل ولايتين من أكبر الولايات، حيث يمثلان معاً 120 مقعداً من أصل 543 مقعداً بالمجلس الأدنى بالبرلمان (لوك سابها). ومن المتوقع أن يعززا جهودهما الرامية إلى زيادة حصتيهما من موارد الحكومة المركزية، ولدرء مخاطر قطع الإعانات التى تغذى شعبهما المعدم. تطور مجالات التنمية البشرية على الرغم من تلك الهوة الواسعة بين الولايات، إلا أن المعدل العام للفقر قد شهد انخفاضاً ملحوظاً على المستوى القومى منذ عام 1990. فقد انخفض بكل من الريف والحضر بنسبة 10% فيما بين عامى 1990 و2000، حيث سجل فى الريف تراجعاً من 37% إلى 27%، ومن 33% إلى 23% بالحضر. كذلك، ترافق الانخفاض الحاد بمعدلات الفقر الريفى مع ارتفاع معدلات النمو الاقتصادى فى بعض الولايات. أما بالنسبة لمستوى التحضر والقضاء على الأمية، فقد صعدت معدلاتهما، خاصة فى الولايات ذات النسب المحدودة من الفقر. حيث تبين أن الولايات التى قطعت شوطاً لا بأس به على طريق محو الأمية، هى تلك التى تتمتع بأعلى معدلات النمو الحضرى والريفى وذات النمو السريع. لكن الأمر الواعد حقاً، هو ما تومئ إليه المؤشرات الاجتماعية من أن بعض الولايات التى عانت من تباطؤ معدلات النمو الاقتصادى قد وضعت قدميها على أولى خطوات درب التقدم، وتعد راجستان، مثالاً حياً فى هذا الصدد، حيث شهدت أعلى معدلات القضاء على أمية الإناث مقارنة بكافة الولايات الأخرى. وقد واكب ذلك انخفاض معدلات الفقر الريفى والحضرى بدرجة ملحوظة. تلك التطورات إن دلت على شئ فإنما تدل على أن المجتمع الهندى يمر بمرحلة تطور لابد وأن تفصح عن ذاتها بحلول عام 2020، بتجلياته على حجم وطبيعة القوة العاملة، واتساع البنية الأساسية فيما سيمثل حافزاً لتحديث الاقتصاد والانخراط بعمق فى التفاعلات الدولية ويعد التواجد الهندى فيما وراء البحار عاملاً موطداً لتلك التوجهات، خاصة فى المدن التى أضحت العولمة حقيقة مسلماً بها لديها. وتعد فاعلية وحيوية الحكومات المحلية، أبرز السمات التى تميز الولايات سريعة النمو عن تلك البطيئة. وهو ما يتبدى فى تحسن أداء ولايتى راجستان ومادياً براديش، فكل منهما لديها قيادة سياسية حازمة ذات تجربة ناجحة للاستثمار فى مجالى التعليم والبنية الأساسية. وفى مواجهة تلك التطورات الإيجابية، يطل وباء الإيدز بوجهه القبيح مهدداً مستقبل الهند. فطبقاً للتقديرات الرسمية التى تم إعلانها فى مايو 2005 يعانى حوالى 5.2 مليون مواطن من الإيدز، أو حوالى 0.9% من إجمالى السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 49 عاماً. وقد تم اكتشاف أول حالة إصابة بالإيدز فى ولاية تأميل نادو. ويلاحظ أن الولايات الأربع التى اجتاحها على نطاق واسع، جميعها متقدمة، سريعة النمو، و تقع فى الجنوب. هذا وتعد العمالة المتنقلة والوافدة التى تجتذبها الاقتصاديات الحيوية، أحد أهم مصادر الإصابة والعدوى. ويعتمد النجاح فى بلورة إستراتيجية مقاومة فعالة، جزئياً على وجود حكومة محلية قوية، فعالة، على درجة عالية من الوعى بكافة أبعاد الكارثة، وقادرة على العمل فى ظل ظروف معقدة عبر القوات البيروقراطية، وبالتنسيق مع المنظمات غير الحكومية. وربما كانت الأهمية التى تنطوى عليها قضية الإيدز تتجسد فى كونها تعد مؤشراً جيداً لقياس مدى قدرة الهند بمختلف ولاياتها على توفير الخدمات العامة بكفاءة. الاستثمار الكونى تتمتع الهند باقتصاد متشعب إقليمياً، لم تلعب فيه تاريخياً التجارة الخارجية، والمعونات والاستثمار سوى دور محدود نسبياً. ولئن كانت نسبة مساهمة الواردات والصادرات الهندية من السلع فى الاقتصاد قد قفزت من 13% إلى 25% منذ عام 1993، إلا إنها ما تزال أدنى بكثير عن مثيلاتها فى الصين ودول جنوب شرق أسيا، والتطور اللافت حقاً، هو الدور المؤثر لقطاع تكنولوجيا المعلومات الذى يسهم بحوالى 3% من الناتج المحلى الإجمالى، ويمثل نصف الصادرات الخدمية بالكامل. ويتخذ فى تطوره شكل منحنى صاعداً باطراد. وعلى الرغم من زيادة الاستثمارات الأجنبية واتجاهها للصعود، إلا إنه من غير المتوقع أن تبرح مكانتها المحدودة فى الاقتصاد، على عكس ما هو سائد لدى الأسواق الصاعدة. فلقد ارتفعت معدلات الاستثمار الأجنبى، إلا إنها ما تزال أقل من مثيلاتها بالصين ودول جنوب شرق أسيا، وإن كانت الهند توازيهم فيما يخص النشاط الاستثمارى للشركات الهندية بالخارج. الأمر الذى يعد بشكل أو بآخر أحد تجليات العولمة التى تتجه لمزيد من الصعود والسطوع قبل حلول 2020. حيث أدت إجراءات رفع الكثير من القيود عن الواردات إلى جذب السلع الأجنبية وتوافرها بالأماكن الحضرية بالهند. هذا فضلاً عما خلقته عائدات العمليات التجارية من فرص عمل بدخول مجزية لأبناء الطبقة الوسطى. كما أضحت الشركات الهندية الكبرى من أهم الفاعلين الدوليين ذوى الوزن الثقيل عالمياً، حيث يشكلون التحالفات، ويغامرون برؤوس أموالهم، ويتحركون وفق نسق وقواعد السوق. الأمر الذى سيؤثر على المدى الطويل فى آليات السوق الهندية، بالنسبة للمستثمرين المحليين والأجانب على حد سواء. بل لقد أفرز لدى صانعى القرار بالهند درجة عالية من الوعى والحرص على أهمية انصهار الروابط الاقتصادية فى بوتقة الاقتصاد العالمى. ب- التغيرات السياسية أحدثت انتخابات مايو 2004، زلزالاً سياسياً أطاح بقلعة الائتلاف الحاكم بزعامة حزب بهارتيا - جانات القومى المتشدد، وأعاد إلى السلطة حزب المؤتمر. وغنى عن البيان أن رئيس الوزراء يعتمد فى تشكيل الحكومة الائتلافية على دعم الأحزاب السياسية التى يصل عددها إلى حوالى 19 حزباً سياسياً، تتوزع بين الانتماءات الإيديولوجية اليسارية، وبعض الأحزاب الإقليمية الصغيرة. ولعل أبرز ما شهدته الحياة السياسية بالهند من تطورات على مدى العقدين الماضيين، يتمثل فى التحول من نظام الحزب الواحد حيث هيمنة حزب المؤتمر بوصفه الحزب الوحيد الذى استطاع أن يحكم دون الاعتماد على أحزاب من الخارج، إلى نظام التعددية التنافسية بين حزبين وأحياناً ثلاثة. حيث أضحت الأحزاب الإقليمية الصغيرة رقماً صعباً فى الانتخابات لدورها فى تشكيل الائتلافات الحكومية لحزبى المؤتمر و بهارتيا جاناتا. وفيما يتعلق بالعقيدة الإيديولوجية للأحزاب، لا يزال حزب بهارتيا جاناتا متشدقاً بجوهر أيديولوجيته القومية، لاسيما بعد انتقاله إلى صفوف المعارضة. وتكرس الأحزاب اليسارية انتماءها للتوجهات الماركسية. إلا أنها عندما تتولى زمام السلطة فإنها تختزل هذا الانتماء فى الشعارات دونما تفعيله عملياً. أما بالنسبة لطائفة الأحزاب الأخرى فإن الانتماء الإيديولوجى لا يعنى بالنسبة لها الكثير. وبصفة عامة، أثبت حزب بهارتيا جاناتا قدرته على قيادة الائتلاف الحكومى فى 1998 وحتى 2004 بثبات واقتدار، وهو ما ينسحب على النظام الحالى بقيادة حزب المؤتمر. فاستقرار الائتلاف الحكومى مرهون بقدرته على رسم سياسة عامة تتوخى المصالح القومية فى الأجلين المتوسط والبعيد، بما يضمن له استكمال دورته كاملة. لذا فإن العملية الانتخابية تعد باهظة التكلفة، وبالغة التعقيد، لأن نجاح ائتلاف ما فى توزيع الحقائب الوزارية، وصياغة برنامج يحظى بالتوافق العام، يعنى تردد أعضائه لإسقاط الحكومة خوفاً من مواجهة الناخبين. لذلك فإن الغلبة فى حلبة صنع القرار بالهند ليست للأيديولوجية بل للقدرة على الاستمرارية. ج-التوسع العسكرى شهد عام 1998 تدشين القوة النووية الهندية، بالإعلان عن تفجيراتها النووية، والتى كان لها مردود سلبى محدود النطاق على الاقتصاد الهندى. بما جلبته من عقوبات واجهتها الهند فى أغلب دول العالم الصناعية. وبمرور الوقت، اضطر المجتمع الدولى أن يرضخ لفكرة عدم تخلى الهند عن برنامجها النووى، خاصة أنه لم يكد يمر ثلاثة أسابيع على إعلانه إلا وكانت التفجيرات الباكستانية قد انطلقت هى الأخرى. وتجدر الإشارة فى هذا الصدد إلى أن الهند كانت قد أعلنت أن قوتها ليست هجومية، وأن ترسانتها النووية تهدف إلى إضفاء نوع من المصداقية على قوتها الرادعة. كذلك شهد عام 1998 طفرة استثمارية فى المجالات العسكرية، حيث قفزت ميزانية الدفاع من 13% إلى 25% سنوياً، وحرصت المؤسسة العسكرية على حيازة المعدات التكنولوجية الحديثة، بهدف بناء قاعدة تحديث عريضة، ودعم المهارات التخطيطية، فضلاً عن التعاطى مع مشاكل التسلل إلى الهند عبر الأراضى الخاضعة للسيادة الباكستانية. وهكذا أصبحت القوة العسكرية للهند ترشحها لممارسة دور أكثر محورية فى الشئون الآسيوية والعالمية. ثانياً: الآثار الجيوسياسية للتغيرات المحلية بينما كانت تلك التحولات الاقتصادية والسياسية تأخذ مجراها، كانت الهند تحاول إيجاد آليات جديدة لسياستها الخارجية والأمنية بما يتلاءم وحسابات مرحلة ما بعد الحرب الباردة، التى كانت ترتكز تقليدياً إلى مبادئ عدم الانحياز، والتحالف الوثيق مع الاتحاد السوفيتى السابق. أما اليوم فلقد أضحت الولايات المتحدة الأمريكية أهم حلفاء الهند خارج محيطها الإقليمى، وفرضت عليها مصالحها الاقتصادية إعادة توصيف أهدافها الأمنية والخارجية. ويستند وضعها الأمنى ومكانتها فى عالم اليوم إلى حيازتها لأسلحة الردع النووية. أما طموحها للاضطلاع بدور أكثر تميزاً عالمياً فيعد أبرز سمات سياستها الخارجية، إلا أن الرؤية العامة لسياستها الخارجية أصبحت أكثر محدودية عما كانت عليه فى عهد نهرو، وإن كانت آلياتها قد أصبحت أكثر تشعباً. أ-تحالف الهند والولايات المتحدة الأمريكية مثلت زيارة رئيس الوزراء الهندى مانموهان سينج لواشنطن فى يوليو 2005 بداية تفعيل أجواء التقارب بينهما. ذلك أنها تمخضت عن اتفاقهما على التعاون فى المجالات النووية السلمية ترسيخاً للمشاركة الاستراتيجية بينهما. فكان الخطاب المشترك لقيادة الدولتين بمثابة وثيقة إطارية للخطوط العريضة لتلك الشراكة، التى جاءت كخطوة على طريق التهدئة لعقد من التوترات، إدراكاً من الطرفين للمصالح المشتركة التى باتت تجمعهما. فعلى الصعيد الاقتصادى، شهدت السنوات الخمس عشرة الماضية، مزيداً من التقارب الودى فى هذا الصدد، مع بداية عولمة الاقتصاد الهندى. حيث تحصل الولايات المتحدة الأمريكية على ثلثى صادرات الهند من البرمجيات Soft ware، والتى تنمو بمقدار 50% سنوياً. وتمنح الولايات المتحدة الأمريكية تصريحات عمل تصل إلى حوالى الثلث لرعايا الهند الذين يحملون جوازات سفر مؤقتة، ويشكلون قدراً وافراً من قوة العمل فى مجال تكنولوجيا المعلومات. كذلك تمثل طائفة الهنود الأمريكيين، ذات الثراء المتنامى لوبى مؤثراً، يمارس ضغوطاً فى واشنطن لصالح الهند، ثم تصب استثماراتهم فى وطنهم الأم. وعلى الرغم من تلك التطورات الإيجابية، إلا أن عائدات النشاط التجارى الخارجى للشركات الأمريكية، تفجر بين الحين والآخر جدلاً واسعاً، فى ظل وجود قوى محلية غير راضية عن ترحيل بعض الوظائف الأمريكية إلى أسواق العمل الرخيصة، كالهند. وفى ذات السياق، تبدو التجارة الثنائية الأمريكية- الهندية محدودة النطاق مقارنة بتلك الأمريكية- الصينية، وإن كانت فى طريقها للنمو. فطبقاً للإحصائيات التجارية الهندية، قفز حجم التبادل التجارى بين الهند وأمريكا من 5.6 بليون دولار عام 1995 إلى ما يقرب من 18 بليون دولار فى 2003، أى بزيادة قدرها 21%. وعلى الرغم من تباطؤ مسار الإصلاح الاقتصادى بالهند، العام الماضى، إلا أنه لا يزال فى إطار معتدل نسبياً، بما يجعل الهند من أكثر المراكز جاذبية للمستثمرين الأجانب عالمياً. وتجدر الإشارة إلى أن المعاملات الاقتصادية الرسمية لم تفض إلى تغيرات دراماتيكية، على عكس ما قد يوحى به التعاون غير الحكومى. ففى يناير 2005، على سبيل المثال، قامت الهند والولايات المتحدة الأمريكية بتوقيع اتفاقية السماوات المفتوحة لتيسير سبل التعاون التجارى بينهما، حيث مسار الخطوط الجوية الهندية مقصوراً، من قبل، على عدد محدود من المدن الأمريكية، تشمل شيكاغو، لوس انجلوس ونيويورك، أما الآن فقد اتسعت القائمة لتشمل عدداً من المحاور الإقليمية الأخرى مثل هوستون، ومينوبليس. وبالمثل، بات فى مقدور الخطوط الجوية الأمريكية التوجه مباشرة إلى المدن الأمريكية وبمقتضى تلك الاتفاقية تم رفع القيود المتشددة التى كانت تفرض من قبل على حمولة الطائرات من البضائع، بين الدولتين. ويمثل التعاون على الصعيد الأمنى، أهم التطورات على الإطلاق فى مجمل العلاقات الأمريكية- الهندية، مقارنة بما كانت عليه فى ذروة الحرب الباردة. وثمة جملة من الدوافع التى ساعدت على هذا التقارب، لعل أهمها توافق مصالح الطرفين فى منطقة الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا من ناحية، حرص قادة الهند على سلامة ممرات الاتصال المائية بالمحيط الهندى لتأمين وصول وارداتهم من الطاقة لمقابلة احتياجات اقتصادهم المتسارع النمو من ناحية أخرى. وتعددت صور التعاون الأمنى من تدريبات إلى مناورات عسكرية مشتركة بشكل منتظم. ولعل أبرز الأمثلة فى هذا الصدد، تعاونهما المشترك فى عمليات الإغاثة لكارثة تسونامى العام الماضى، والتى جاوزت الحدود حتى إندونيسيا، بل لقد ذهبت الهند إلى ما هو أبعد من ذلك، حينما عرضت مرافقه إحدى حامياتها البحرية للحمولات الأمريكية الحساسة بمضيق ملقا. فيما يمثل تحولاً جذرياً عن طبيعة الموقف الهندى من تواجد القوى غير الإقليمية بالمحيط الهندى، والذى كان دائماً يشوبه الحذر والتوجس. ولقد تم ترسيم الإطار الجديد لعلاقاتهما الدفاعية فى الاتفاقية التى تم التوقيع عليها بالأحرف الأولى أثناء زيارة وزير الدفاع الهندى إلى واشنطن فى يونيو 2005. ومنذ عام 2003، بدأت الدولتان تتجهان نحو رفع المزيد من القيود التى كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد وضعتها على التعاون فى المجالات الدفاعية والتجارية بينهما. وبمقتضى اتفاقية الشراكة الاستراتيجية NSSP التى تم إعلانها فى يناير 2004 واستكمالها فى 2005، قامت الهند بتعديل الإطار العام الذى يحكم استخدام وتصدير التكنولوجيا الحساسة، بما يسمح للولايات المتحدة الأمريكية برفع العديد من القيود على تصدير تلك المواد إلى الهند. وفى مارس 2005، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، عن نيتهما السماح للشركات الأمريكية بإبرام عقود توريد شحنات من الطائرات النفاثة المقاتلة إلى الهند، فضلاً عن الاستعداد الأمريكى لإجازة الإنتاج المشترك لتلك الطائرات فى الهند. الأمر الذى يعد انقلاباً خطيراً فى النهج الأمريكى لسياسات التراخيص، حيث تعد تلك السابقة الأولى من نوعها التى تسعى فيها الشركات الأمريكية بشكل جدى من أجل إبرام عقود للتدابير العسكرية الرئيسية للهند. ومن المتوقع أن تثير اتفاقية التعاون النووى، التى تعد العنصر الأخير فى هيكل العلاقات الأمنية الهندية- الأمريكية والتجارية فى المواد التكنولوجية الحساسة، جدلاً حامى الوطيس. حيث شرعت الولايات المتحدة الأمريكية فى تبنى إجراءات تهدف لإحداث تغيرات لنظامها القانونى وتعديلات لاتفاقياتها الدولية، بما يتضمن بيع بعض المعدات النووية السلمية. ووافقت الهند على أساس تبادلى، على حزمة من الإجراءات تزعم أنها ستمنحها نفس الممارسات والمسئوليات والمزايا والمنافع التى تتمتع بها الدول الرائدة فى مجال التكنولوجيا النووية المتقدمة كالولايات المتحدة الأمريكية. وتتمثل أهم تلك الإجراءات من جانب الهند، فيما يلى: وضع منشآتها النووية السلمية، اختيارياً، تحت الرقابة. والعمل من أجل عقد اتفاقية متعددة الأطراف للحد من انتشار المواد الانشطارية، والمشاركة فى كافة الترتيبات الهادفة إلى ضبط التجارة الدولية فى التكنولوجيا النووية، كنظام ضبط تكنولوجيا الصواريخ، ومجموعة الممولين النوويين. ومما لا شك فيه أن تطبيق تلك الاتفاقية سيواجه بعاصفة من الانتقادات الداخلية فى الهند والولايات المتحدة الأمريكية على حد سواء، و بحالة من الدهشة العالمية. ولكن بمجرد أن يتم تطبيقها فإنها سترفع عن الهند عبئ العقوبات المفروضة عليها، وستضعها فى مصاف الدول الحامية لأمن العالم فى مواجهة التجارة النووية. وترى بعض الدوائر الفكرية أن العداء الأمريكى للصين هو الدافع لقيامها بخطب ود الهند، وإن كان البعض الآخر يرى أن مثل هذا التفكير مبالغ فيه، حيث تنخرط كل من الهند والولايات المتحدة الأمريكية فى علاقة مع الصين بدرجة أو بأخرى. ولكن مما لا شكل فيه، أن تزامن صعود الصين والهند اقتصادياً وعسكرياً، مع تصادم المصالح الأمريكية والصينية، قد أغرى واشنطن بإقامة شراكة استراتيجية مع الهند. ب-توجه الهند شرقاً و العلاقة مع الصين شهدت العلاقات الهندية- الصينية، تغيرات دراماتيكية مؤخراً، حيث ظلت الصين، لعدة سنوات خلت تمثل التحدى الاستراتيجى الأساسى فى النسق الذهنى العسكرى للهند، الذى ما تزال تحكمه عقدة الحرب الهندية- الصينية 1962. أما عن سياسة الصين تجاه الهند فقد اصطبغت بمزيج من الفتور والارتياب والغضب عندما أعلنت الأخيرة أن تفجيراتها النووية 1998 كانت تهدف فى المقام الأول إلى ردع التهديدات الصينية. ولكن بدأ التعاون الاقتصادى والتجارى بين الدولتين يأخذ قوة دفع جديدة فى ظل الانفتاح الهندى على التكتلات الاقتصادية، إضافة إلى تعزيز قدراتها التسليحيه، حيث وصل حجم التجارة الثنائية بينهما إلى 13 بليون دولار أمريكى، بعد ما كان يبلغ 2.5 بليون دولار فقط عام 1999. وعلى الرغم من أن الهند لا تمثل سوى 1% من حجم المعاملات الخارجية للصين، إلا أن الأخيرة تعد ثانى أكبر شريك تجارى للهند، يلى الولايات المتحدة الأمريكية مباشرة. وتعد براعة الصين الصناعية موضع حسد من قبل الشركات الهندية، وبالمقابل ترغب شركات الاتصالات الدولية الصينية فى اكتساب مهارة الهند فى قطاع الخدمات. هذا وتتجه التدفقات الاستثمارية الثنائية بينهما نحو الصعود وإن كانت لا تزال محدودة. ولقد دفعت التعاملات التجارية الكثيفة للشركات متعددة الجنسيات بالصين، شركات البرمجيات والخدمات مثل شركة تاتا للاستثمارات الخدمية، لإقامة مراكز رئيسية لها بالصين. خاصة وأن الحجم الهائل للطبقة الوسطى الهندية، يمثل هدفاً جذاباً للشركات الصينية. وربما كان التطور الأكثر أهمية فى هذا الصدد، هو استعداد شركات التكنولوجيا الهندية للمغامرة برؤوس أموالهم ومشاركة الصينيين. وعلى صعيد العلاقات السياسية، شهدت المفاوضات بشأن قضية الحدود بعض الإنجازات، بعد تعثرها لمدة أربع سنوات. ففى أثناء زيارة رئيس الوزراء الصينى وين جيابا لنيودلهى فى مارس 2005، أعلنت الدولتان رسمياً عن نيتهما التوصل إلى تسوية ما لهذا الخلاف. وهو ما تبدت مظاهرة فى قبول الصين لسيادة الهند على جزء محدود من مساحة الهيملايا الواقعة فى منطقة سيكيم، فضلاً عن إقامة الدولتين نظاماً مشتركاً للتجارة المحلية بأحد قطاعات المنطقة الحدودية محل النزاع بينهما. ورغم تلك التطورات الإيجابية إلا أن هناك بعض المعوقات التى تدفع العلاقات بينهما نحو الانزلاق فى مضمار التنافس، وإن كانت تلك المعوقات أكثر حضوراً فى الهند عنها فى الصين. وتتمثل فى المساحة، التقارب الجغرافى، والتنافس الشرس لتزامن صعودهما الاقتصادى والسياسى معاً. فالنموذج الصينى هو المقياس الذى تحتكم إليه الهند لتقييم وضعها اقتصادياً وسياسياً. وثمة عاملان آخران يدفعان العلاقات فى ذات الاتجاه، الأول هو الطاقة، فى ظل الاندفاع المحموم لكليهما نحو توفير مصادر عالمية آمنة للنفط والغاز، لتمويل احتياجات اقتصادياتهما المتنامية. والعامل الثانى يتمثل فى هاجس الخوف الهندى من اتجاه الصين نحو شواطئ المحيط الهندى على المدى الطويل. ويلقى العامل الباكستانى بتأثيره السلبى فى هذا الصدد، متمثلاً فى الدعم الذى تحصل عليه باكستان من الصين خاصة فى مجال التكنولوجيا النووية، معطوفاً عليه التواجد الصينى البارز فى مينمار (بورما)، فضلاً عن علاقاتها المتطورة بإيران. وتتفاقم مخاوف الهند، فى احتمالات نقل الغواصات التى شرعت الصين فى بنائها إلى مياه المحيط الهندى بما يهدد مصالحها الحيوية هناك بشكل مباشر. مغازلة جنوب شرق آسيا واليابان يعكس اتجاه الهند نحو منطقة الشرق الأقصى، التى كانت تتمتع فيها بنفوذ محدودة إبان مرحلة الحرب الباردة، رغبتها فى الاهتداء والاقتداء بنموذج جيرانها الشرقيين، وحرصها على حماية مصالحها الاقتصادية والسياسية العريضة عبر قارة آسيا. ولقد تراجعت علاقاتها الثنائية مع اليابان، عقب التفجيرات النووية الهندية 1998، إلا أنها بدأت تستعيد دفئها منذ ثلاث إلى أربع سنوات. وجاءت زيارة رئيس الوزراء اليابانى السابق بوشيرو مورى فى أغسطس 2000 إلى الهند، دفعاً لرياح التقارب المواتية بين الدولتين، حيث تعد الأولى من نوعها خلال عقد من الزمان. وتلتها فى أبريل 2005 زيارة رئيس وزراء اليابان جونشيرو كويزومى إلى نيودلهى، مما أعطى قوة دفع هائلة، ساهم فى تحريكها المصالح المشتركة التى تجمعهما، بداية من القضاء على القرصنة والإرهاب فى مضيق ملقا، مروراً بتطوير العلاقات التجارية الثنائية بينهما، وصولاً إلى حرصهما على تشجيع السلام فى سيرلانكا. كما أجرت الدولتان، بعض التدريبات العسكرية المشتركة، وإن كانت الهند تتحاشى دوماً التركيز على البعد الأمنى فى علاقاتها مع اليابان، خوفاً من إثارة حفيظة الصين التى تربطها بها علاقات أكثر تشعباً. وعلى الصعيد الاقتصادى، عانت الاستثمارات اليابانية بالهند من الركود والتباطؤ. وتعد اليابان اليوم سابع أكبر شركاء الهند تجارياً، حيث ساهمت بحوالى 3.1% من إجمالى صادرات الهند ووارداتها فى 2003 وأصبحت الأسواق الهندية عنصر جذب للشركات اليابانية، فى ظل الانفتاح الهندى، وإعادة هيكلة أسواق رأس المال، وزيادة ثراء أبناء الطبقة الوسطى الهندية. وتنظر الهند بانبهار للشركات اليابانية ذات الصيت الذائع فى المجالات التكنولوجية والهندسية مثل شركة سونى، تويوتا، وبانا سونيك. وتتماثل علاقة الهند بدول رابطة الآسيان، بعلاقات باليابان فى المجالات الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية، حيث ترغب الهند فى توسيع نطاق مشاركتها فى منظمات دول آسيا على اتساعها، فضلاً عن جنوب شرقها. وتسعى الهند لتكريس علاقات اقتصادية وسياسية مستقرة مع الشرق الآسيوى، وإقامة تعاون مشترك فى مجال الطاقة بهدف محاصرة قوة الصين الصاعدة، الأمر الذى دفع سنغافورة، على وجه الخصوص، لحث الهند على الاضطلاع بدور أوسع نطاقاً فى منطقة جنوب شرق آسيا، كما قامت بتكثيف مقرراتها الأكاديمية بشأن القضايا الأمنية فى المحيط. وتطمح الهند لتعزيز قدراتها البحرية فى إقليم جنوب شرق آسيا، بعدما حظيت بإعجاب دولى عقب مساهمتها فى عمليات الإغاثة لكارثة تسونامى العام الماضى. وإن كانت طموحاتها المماثلة فى الخليج الفارسى تصطدم بالتواجد الأمريكى هناك، والمعارضة الباكستانية الأكيدة لذلك. ج-صراع المصالح بالشرق الأوسط ووسط آسيا شكل الموقف الهندى فى الصراع العربى - الإسرائيلى، العامل الحاسم لتحديد سياستها بمنطقة الشرق الأوسط، فيما قبل 1995. الأمر الذى يتجل فى سلوكها التصويتى المناهض لقيام دولة إسرائيل بهيئة الأمم المتحدة، انطلاقاً من عدم قناعتها بالدين كأساس لبناء أمة ما، ورغبة منها فى مناصرة العالم العربى والطائفة الإسلامية التى تحيا بين ظهرانيها. ولكن منذ 1992 بدأت العلاقات الهندية - الإسرائيلية تأخذ منحاً إيجابياً تمثل فى إقامة علاقات دبلوماسية بينهما. وتصدرت مجالات الدفاع والاستخبارات أجندة تعاونهما، حيث قامت الهند بتوقيع اتفاقيات دفاعية مع إسرائيل تبلغ قيمتها 3 بلايين دولار أمريكى، وبذلك أصبحت إسرائيل ثانى أكبر مصدر للأسلحة للهند بعد روسيا. وفى نفس الوقت، أدى النمو الاقتصادى الكبير الذى شهدته الهند فى العقد الماضى إلى زيادة احتياجاتها من الطاقة بشكل حاد. فبالنسبة للطلب العالمى على البترول تحتل الهند المرتبة السادسة، وتفى بحوالى 70% من احتياجاتها من خلال واردات النفط الخام. ومن المتوقع أن تحل الهند محل كوريا الجنوبية بحلول عام 2010 لتصبح رابع أكبر مستهلك للطاقة بعد كل من الولايات المتحدة الأمريكية، الصين واليابان. الأمر الذى دفع سياسة الهند لمحاولة تنويع مصادر النفط، بخلاف الشرق الأوسط، كفنزويلاً والسودان. هذا المسعى لتأمين الطاقة قد يفضى إلى إعادة تشكيل منطقة جنوب آسيا جيوسياسياً، وقد يؤثر على علاقاتها الدبلوماسية، خاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية. وتستورد الهند 70% من احتياجاتها من النفط الخام من الشرق الأوسط، ومن المتوقع أن يزداد اعتمادها على الإمدادات الخارجية فى ظل تسارع وتيرة نمو اقتصادها. وتعد المملكة العربية السعودية أكبر ممول للنفط الخام للهند، فيما يمثل ربع إجمالى وارداتها، بما يصل إلى 1.9 برميل يومياً، بينما تمثل نيجيريا 15% فقط. وتعد احتياجاتها فى الطاقة، المحرك الأساسى للروابط التى تجمعها بإيران. ففى يناير 2005، قامت الشركة الهندية للغاز الطبيعى غيل بتوقيع اتفاق لمدة 30 عاماً مع الشركة الإيرانية القومية لتصدير الغاز لنقل حوالى 7.5 مليون طن من الغاز الطبيعى المكرر إلى الهند سنوياً. كما يقضى هذا الاتفاق الذى تصل فيمته إلى ما يقرب من 50 بليون دولار، باشتراك الهند فى جهود تطوير حقول النفط الإيرانية. ويعد 26 من يناير 2003 نقطة تحول فارقة فى العلاقات الهندية - الإيرانية، حيث تصدر الرئيس الإيرانى السابق محمد خاتمى الموكب الاحتفالى باليوم الوطنى للهند باعتباره ضيف الشرف الرئيسى، فيما يعد تكريماً تختص به نيودلهى حلفاءها من أهل الثقة. ولقد وقعت الدولتان إعلان نيودلهى لتوسيع دائرة التعاون التجارى بينهما. ومنذ ذلك الحين، انتعشت العلاقات الثنائية، مدفوعة بالرغبة المشتركة فى دعم الروابط التجارية، واحتياج الهند الملح للنفط والغاز الطبيعى، وتوحد منظورهما الاسترتيجى بشأن أفغانستان ووسط آسيا. وتسير العلاقات الاقتصادية بينهما على غير ما تشتهى واشنطن. فعلى الرغم من اتفاق الهند والولايات المتحدة الأمريكية على تحديد آليات التعاون للحد من انتشار التكنولوجيا النووية، إلا أن توقيع اتفاقيات طويلة الأجل مع إيران سيحول دون موافقة الهند على فرض عقوبات على إيران إذا ما أحيل ملفها إلى مجلس الأمن. ويمثل كل من عامل الطاقة والمحددات الجيوسياسية المحرك الرئيسى لمصالح الهند فى وسط آسيا. ففى أفغانستان تضرب تلك المصالح القومية بجذورها إلى مرحلة ما قبل الاستقلال حيث تعد الأخيرة أهم جبهة أمنية للهند. وساهمت العلاقات الباكستانية - الأفغانية المتوترة، ورغبة الهند فى تكريس روابط متينه مع العالم الإسلامى، فى الحفاظ على استقرار العلاقات الهندية - بدول وسط آسيا. وفى أعقاب أحداث الحادى عشر من سبتمبر، وبسقوط نظام طالبان وتولى حكومة كرزاى سدة الحكم - والتى تجمعها بنيودلهى صلات قوية - استمرت الهند بمراعاة ذلك مما أدى إلى ارتباك باكستان. وتمثل العديد من دول وسط آسيا الواقعة شمال وغرب أفغانستان، والتى انفصلت مؤخراً عن الاتحاد السوفيتى السابق، نقاط جذب هائلة لصانعى القرار بالهند والمفكرين الاستراتيجيين. بل إنها تمثل مصدراً واعداً بالطاقة لمستقبل الهند نظراً لثروتها البترولية. وتتطلع لتوسيع دائرة نفوذها فى تلك الدول لأغراض التنافس مع باكستان، وتأمين إمدادات الطاقة. الأمر الذى يفسر جزئياً تنامى العلاقات الهندية الإيرانية، والتى ترجع فى جزء منها إلى رغبة إيران فى إفساح الطريق إلى بوابة وسط آسيا أمام الطموح الهندى، فيما عارضته باكستان طويلاً. د-العلاقة مع دول الجوار بالجنوب الآسيوى، وباكستان تتميز التوجهات الجديدة للسياسة الخارجية للهند بامتدادها خلف الحدود التقليدية لمنطقة جنوب آسيا، إلا أن الخلاف الهندى - الباكستانى يلقى بظلاله على وضع الهند جيوسياسياً. حيث يلاحظ أن علاقة الهند بباكستان ودول الجوار بجنوب آسيا لم تطرأ عليها أية تغيرات جذرية بخلاف الحال مع الولايات المتحدة الأمريكية وآسيا والشرق الأوسط. لذا فإن السؤال الذى يطرح نفسه الآن هو ما إذا كانت الهند ستقرر فى لحظة إعطاء دفعة قوية باتجاه تسوية خلافاتها مع باكستان بهدف تعظيم عائد مكانتها الدولية؟ ولا يزال اتفاق وقف إطلاق النار - نوفمبر 2003- سارياً حتى الآن. حيث تتواصل المساعى الحثيثة للقيادة السياسية للجانبين لتفعيله ومواصلة العملية السلمية التى بدأت فى يناير 2004. وتتولى إحدى مجموعات العمل، قضية كشمير، محل النزاع الرئيسى بينهما، وثمة مجموعة أخرى تتعامل مع جهودها للحد من مخاطر التسلح النووى، أما المجموعة الثالثة تتعاطى مع ست حزم فى القضايا الثنائية العالقة بينهما. وتسيطر الهند على أكثر الأقسام أهمية فى إقليم كشمير المتنازع عليه. بل إنها تدعى أحقيتها بالأقسام الخاضعة لسيطرة باكستان والصين. وتطالب باكستان بإجراء استفتاء عام يقرر فيه الكشميريون أنفسهم مستقبل السيادة فى الإقليم، تبعاً لقرارات الأمم المتحدة منذ عام 1949. حيث أن الحياد بعيداً عن هذا الطريق، يعنى صعوبة الوصول إلى تسوية مقبولة نظراً لتعارض آراء الدولتين فى هذا الشأن. وفيما تفضل باكستان تسوية النزاع بشأن كشمير أولاً، فإن الهند ترغب فى تناول القضايا الخلافية الأخرى، وإرجاء المسألة الكشميرية إلى المراحل الأخيرة. ولقد بدأ الطرفان تطبيق مجموعة من إجراءات بناء الثقة على امتداد عامى 2003/2004. كان أهم مظاهرها تدشين أول خط لحافلات الركاب للربط بين سرينجار ومظفر آباد بطول 170كيلو متراً، وذلك لتيسير عمليات التبادل التجارى بين الشطرين وإقامة مشروعات جديدة. فضلاً عن تبادل الزيارات الرسمية على أعلى المستويات وإعلان نيتهما إقامة خط أنابيب للغاز الطبيعى يربط بين إيران والهند عبر باكستان. أما على صعيد علاقة الهند بدول الجوار الأخرى فى الجنوب الآسيوى، فكانت ولا تزال غير متماثلة، تبعاً لقوة وحجم كل منها. فضلاً عن أن الدور الريادى للهند إقليمياً ومحاولتها ترجمته فى تبنى سياسة خارجية متميزة نوعاً ما، كان عاملاً فاعلاً فى هذا الصدد. ولكن فى ظل إحاطة التوترات الأمنية، لهذا الإقليم، ورغبة الهند فى الخروج من آفاقه، تصدرت القضايا الاقتصادية أجندة الأولويات الهندية به. واضطرت الهند إلى رفع مستوى نشاطها الدبلوماسى عالمياً، لمواجهة التوترات الأمنية المتصاعدة بالإقليم بداية بالصراع العرقى بسيرلانكا، مروراً بإحاطة النظام الملكى الجديد فى نيبال بحكومتها المنتخبة وذهاب 15 عاماً من التطور الديمقراطى أدراج الرياح، وصولاً إلى الحكومة المتهاوية فى بنجلاديش التى تواجه خطر العناصر الإسلامية المتشددة. وشهدت السنوات العشر الماضية، توسع الهند إقليمياً فى مجالى التجارة والاستثمار. ويعد الاتفاق المبدئى للهند مع كل من بنجلاديش ومينامار لمد خط أنابيب بترولى بينهما أبرز الأمثلة فى هذا الصدد، والذى يلقى هوى لدى بنجلادش لتطلعاته السياسية من أجل التعاون مع الهند فى مجال الطاقة. كذلك، اتفقت رابطة دول جنوب آسيا للتعاون الإقليمى (سارك)، مبدئياً على إقامة منطقة تجارة حرة بجنوب آسيا، وتم بالفعل اعتماد بعض الخطوات الفعلية فى هذا الاتجاه، تمثلت فى عقد اتفاقية تجارية بين الهند وسيرلانكا. وفى ذات الوقت، قامت بعض الشركات الهندية الكبيرة بزيادة استثماراتها فى دول المحيط الإقليمى. فعلى سبيل المثال، يقدر حجم استثمارات شركة تاتا فى بنجلادش بحوالى 2 بليون دولار، كما يخطط أحد فروعها لوضع استثماراتها بإحدى المؤسسات التدريبية بباكستان فى مجال الاتصالات الدولية. هـ-العلاقة مع أوروبا، وروسيا والعالم النامى فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة، تراجعت أهمية الركيزتين الأساسيتين لسياسة الهند الخارجية. فقدت روسيا بريقها بوصفها الحليف الدبلوماسى العتيد للهند، وإن ظلت تجمعها المصلحة المشتركة لتشكيل عالم متعدد الأقطاب. ورغم تلاشى مكانتها كالشريك التجارى الرئيسى للهند، إلا أنها ما تزال أكبر ممول عسكرى إليها. وفيما يتعلق بواردات الطاقة، لم يعد لروسيا وضعها المتميز إلا إنها قد تستعيده خلال العقدين القادمين فى ظل ما تشهده أسواق الطاقة من تغيرات دراماتيكية. ومن ناحية أخرى، لم تعد الهند تولى ذات الأهمية لنوازع هيمنتها بين الدول النامية حيث اتجهت بوصلة سياستها الخارجية نحو الولايات المتحدة الأمريكية والدول الآسيوية الكبرى. وتتمثل أهمية أوروبا للهند جيوسياسياً، فى بعدين أساسيين، الأول، تعد علاقات الشراكة المتينة التى تجمعها فى مجالات التجارة والاستثمار عاملاً مساعداً لبلوغ الهند نهضتها الاقتصادية. والثانى، يمثل الحوار السياسى بين الهند والدول الأوروبية حجر الزاوية فى هيكل الدور العالمى، الذى تطمح الهند إليه. وتتمتع الهند بعلاقات طيبة مع كافة الدول الأوروبية، حيث قامت الهند بعقد اتفاقية ثنائية حمائية للاستثمار مع 16 دولة أوروبية من بين الأعضاء الـ25 للاتحاد الأوروبى. ويعد الاتحاد الأوروبى أكبر متلق للصادرات الهندية، حيث تبلغ نسبته حوالى 24% من إجمالى صادرتها. وفى عام 2003، احتلت الهند المركز الـ19 فى قائمة الدول المصدرة للاتحاد الأوروبى، وبلغت حصتها من إجمالى وارداته 1.35%. وبالمقابل احتلت الهند المرتبة الـ16 فى قائمة مستوردى بضائع الاتحاد الأوروبى، حيث بلغت حصتها 1.46% من إجمالى صادراته. وتم عقد مؤتمر القمة الأخير بينهما فى 8 من نوفمبر 2004. لدعم وتنسيق جهودها المشتركة فى مجالات مكافحة الإرهاب، إصلاح الأمم المتحدة، ومنع الانتشار النووى. ثالثاً: صعود الهند كقوة استراتيجية ارتكزت سياسة الهند الخارجية فى العقود الأولى التى أعقبت فجر استقلالها، على مبادئ عدم الانحياز، ودورها الريادى لدول العالم النامى، مستثمرة فى ذلك عراقتها الديمقراطية، وامتثال قادتها السياسيين لقيم العدل المثالية. الأمر الذى تجلى بقوة فى مقاومتها للتقسيم الشائع آنذاك للعالم إلى كتله شرقية وأخرى غربية، ونضالها من أجل إعادة التوزيع العادل للثروة عالمياً وحصول الدول الفقيرة على المساعدات الاقتصادية. ولقد اتسم الدور العالمى للهند، إبان حقبة التسعينيات فى القرن العشرين بالشحوب النسبى. ولسوء حظها تزامنت آخر دوراتها بمجلس الأمن (1990-1992) مع حرب الخليج الثانية، وتعقيدات تكيف العالم مع المستجدات التى أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتى السابق. لذا فإنها تحاول اليوم، لملمة أشتات دورها العالمى عبر المساهمة فى المفاوضات التجارية المتعددة الأطراف. ففى سبتمبر 2003، بكانكان، تبنت الهند خطاً متشدداً لمعارضة اتفاقية التجارة الزراعية التى طرحتها الدول المتقدمة، الأمر الذى أحدث صدىً سياسياً محلياً جيداً داخل أهم مقاطعاتها. وجدير بالذكر أن سعى الهند الحثيث لزيادة مشاركتها فى منظمات المجتمع الدولى، استناداً إلى قوتها العسكرية ونجاحها الاقتصادى، لا يقف عند حد حجز موطئ قدم لها به، بل إنها تطمح إلى بلورة تنظيم عالمى جديد، تتوزع فيه القوة بين أقطاب متعددة، تكون هى إحداها بالطبع. وفى هذا الإطار، بعد الفوز بمقعد دائم فى مجلس الأمن قبلة الطموح الهندى، الذى تحشد من أجله الدعم العالمى بالتنسيق مع ألمانيا، اليابان والبرازيل. كما تسعى الهند لتوسيع نطاق مشاركتها فى منظمات محيطها الإقليمى كرابطة دول الآسيان. ويتوقع البعض أن تكون عضوية الوكالة الدولية للطاقة الذرية المحطة التالية لطموح الهند العالمى. وأن تستثمر فى هذا الصدد مكانتها ودورها الفعال فى أنظمة التحويل الدولى لمحاربة الأوبئة كالإيدز، الالتهاب الرئوى والملاريا. ومن المؤكد أن التوسع والتنوع فى صادرات الهند سوف ينعكس على دورها ومكانتها فى منطقة التجارة العالمية. أما عن مساهمتها فى المنظمات الهادفة للحد من الانتشار النووى، فإنها تعد مؤشراً هاماً لدورها العالمى فى الحقبة القادمة، فى ضوء اتفاق التعاون النووى الأخير يبنها وبين واشنطن. وينصب اهتمام الهند على تأمين مقعد لها بالمنظمات الدولية الهامة، بصرف النظر عن الفرص المتاحة أمامها أو كيفية توظيفها للسياقات الدولية المواتية. فهى بلا شك ترغب فى حماية استقلالها السياسى فى المجال الخارجى، وتعارض السياسات التدخلية فى شئون العالم النامى كملفات حقوق الإنسان. وعلى الصعيد النووى، تسعى لتوفير هامش فى حرية الحركة بقدر الإمكان، والحيلولة دون انضمام باكستان لمنظمات منع الانتشار النووى. الخلاصة يمكن القول أن استقرار النظام السياسى الديمقراطى للهند، واتساع شريحة الطبقة الوسطى، وضخامة نفوذها العسكرى بجنوب آسيا، ازدياد ثروتها الاقتصادية وطموحها العالمى، جميعها عوامل ترشح الهند للاضطلاع بدور أكثر فاعلية فى الشأن العالمى، بافتراض استمرار مسار التحسن، ولكن ما يزال الوقت مبكراً لاعتبار الهند قوة كونية. فمظاهر الازدهار التى سادت الهند فى السنوات الأخيرة، تصطدم ببعض المعوقات الهيكلية. صحيح أن الإصلاحات الاقتصادية التى تحققت تحظى بالتوافق السياسى العام، إلا أن إنجازات الحكومة الحالية لم ترق إلى سقف الطموحات المأمول، مثلها مثل سابقتها، وغاية ما أنجزته منذ توليها السلطة فى مايو 2004 هو فرض ضريبة القيمة - المضافة. ولكى تصبح الهند قوة اقتصادية تمتلك مقومات المنافسة لابد وأن تحقق معدلاً مرتفعاً للنمو الاقتصادى لا يقل عن 8% وأن يستقر عند هذا الحد لفترة زمنية طويلة. وتواجه الهند جملة تحديات، فى سبيل بلوغ أهدافها العالمية، نوجزها فيما يلى:- أولاً: معالجة المشاكل الهيكلية التى يعانى منها اقتصادها، كتفاقم نسبة العجز المالى، تحرير قطاع الصناعة فى قوانين العمل البالية، عرض الأصول المملوكة للدولة للبيع وتوظيف عائداتها للاستثمار فى النسبة الأساسية. ويعد تحقيق تلك الأهداف أمراً فى غاية الصعوبة، حتى فى أحسن الأحوال، ناهيك عن تعقيدات سياسة الائتلاف الحاكم. ثانياً: يهدد شبح الإيدز، النمو الاقتصادى للهند والصحة العامة. فمن سوء حظها، أن الأماكن الأكثر ازدهاراً بها كانت هى الأوفر نصيباً من آثاره السلبية. وإن لم يتم اعتماد خطوات جادة للسيطرة عليه، فقد يطيح بأهم المزايا الاقتصادية المتمثلة فى العمالة الرخيصة الماهرة. ثالثاً: تشكل علاقة الهند بكل من باكستان والولايات المتحدة الأمريكية والصين عاملاً حاسماً فى هذا الصدد، لخلق مناخ عام من السلام والاستقرار يشجع على جذب الاستثمارات الأجنبية. وإذا ما تبنت الهند سياسة خارجية أكثر براجماتية، يتم تحديد توجهاتها بناءً على الأولويات الاقتصادية، فإنها بلا شك ستحصد مكاسب السلام، بخلاف الحال إذا ما استمر التوتر بينهما وبين جارتها باكستان. كذلك، إن ثروة الهند الاقتصادية مرهونة بكيفية إدارة علاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية، فتنامى علاقة الهند بإيران، السودان وفنزويلا لتأمين مصادر الطاقة، قد يؤثر سلباً على تدفق الاستثمارات والتكنولوجيا الأمريكية إليها. أما على صعيد علاقتها بالصين، فإنها ترقى إلى الأهمية التى تحظى بها باكستان والولايات المتحدة الأمريكية. فثمة عوامل تدفع أمواج تنافسهما نحو صخرة الصدام رغم قنوات الحوار التجارية بينهما. فالتنافس بينهما على أشده لتأمين مصادر الطاقة، فضلاً عن استعراض العضلات الذى تمارسه فى منطقة المحيط الهندى. ولقد استطاعت الصين إدارة علاقاتها الاستراتيجية مع باكستان بمهارة على مدار العامين الماضيين، كرسالة للهند مفادها دعوتها لمراجعة ذاتها. وتحظى التوجهات الاستراتيجية للهند بالتوافق السياسى العام محلياً. وكانت قد بدأت تتبلور فى شكلها الحالى أثناء تولى حزب بهارتيا جاناتا السلطة، واستمرت على هذا النحو بعد ما خلفه حزب المؤتمر الحاكم، بحيث لم يطرأ عليها سوى بعض التغيرات الطفيفة. ومن المعروف أن حزب بهارتيا جاناتا يتبنى خطاباً أمنياً أكثر وضوحاً، وتوجهات قوية تجاه محيطه الإقليمى. وتشعر الأحزاب اليسارية بالائتلاف الحاكم الآن بالقلق فى العلاقة المتنامية مع الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن عملياً، فإن القرارات المصيرية، بما فيها القضايا الحساسة مع باكستان، قد باتت تحظى بالتوافق على المستوى القومى العام. وبصفة عامة، تتسم السياسة الهندية بالمزج بين التوجهات البراجماتية والقومية، وتتمثل أهم أهدافها فى تكريس علاقات متينة بالولايات المتحدة الأمريكية، والاعتراف بها كواحدة من أهم القوى الفاعلة عالمياً. أما حجم الدور العالمى الذى تطمح إليه على مدى السنوات الخمس عشرة القادمة فإنه مرهون بمدى تقدم نموها الاقتصادى وقدرتها على إدارة علاقاتها الدبلوماسية مع أهم القوى العالمية وجيرانها بمهارة. ويعتمد الاتجاه الذى ستيسر فيه سياسة كل منهما على مدى قدرة قادة الهند على إحداث توازن بين الأهداف المتصارعة لسياستها الخارجية. و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصاً و دون تعليق. المصدر: الأهرام الإستراتيجية نقلاً عن Current Issues, Deutsche Bank Research
مواضيع ذات علاقة:
◄هند تفتح أبوابها على المستثمرين في مجال الإعلام ◄مَـنْ يـنـتـظـر مَـنْ ؟ ... الهـنـد والـعـالـم ◄صراع القوتين العُظميين··· هل بلغ ساعة الخطر؟ ◄ميزان القوة العالمي يميل إلى آسيا ◄سؤال مرهق: هل تسيطر آسيا على القرن الحادي والعشرين...؟ ◄تنافس العملاقين الهندي والصيني يهزّ صناعة المعلوماتية عالمياً ◄الهند والصين وصناعة المعلوماتية ◄تنافس العملاقين الهندي والصيني يهزّ صناعة المعلوماتية عالمياً
|