لكي يعـود المسلمون أمة متحضرة

 

 

محمد سعيد المخزومي

 

 الحلقة السادسة

 التحضر والعنف ثقافتان متناقضتان في الحياة، واحدة تلتزم البناء والأخرى تتهالك في الهدم والدمار، والإسلام دين التحضر، والمبدأ  الذي يهتم بالإنسان والإنسانية، وقد تبين من بحوثنا في الحلقات السابقة أن العنف أمر طرأ على الغالب الأعظم من المسلمين بفعل  الإرادة الأموية التي سنت فيهم مناهج العنف وزجت بالأمة لأن تمارس أبشع أنواع العنف وسنّوا فيهم سنة التطرف، ووضعوا فيهم  مناهج الإرهاب ضد أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم على طول التاريخ  حتى يومنا هذا . وقد سموا ذلك كله بالسنة النبوية زورا  وبهتانا، وقد بينا فيما قد سبق أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  حذر من السنة الأموية التي ستعشعش تحت ستار السنة النبوية  الشريفة. فخطب أمير المؤمنين عليه السلام على ملأ من الأمة قائلا:

 ( إني سمعت رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم" يقول كيف أنتم إذا لبستكم فتنةٌ يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير يجري الناس  عليها ويتخذونها سنةً فإذا غير منها شي‏ءٌ قيل قد غيرت السنة) .(1)

 وبالفعل فقد جاء معاوية والأمويون من بعده وأرسوا قواعد سنة العنف الأموي والثقافة التطرف الدموي التي جاءت تحت غطاء الفكر  الإسلامي تارة، وبإدارة علماء لبسوا مسوح الدين تحت عنوان قضاة البلاط  ووعاظ السلاطين وهيئات علماء المسلمين وأجهزة الإفتاء  الشرعي وجماعات الأوقاف  الديني ونظائرها قديما وحديثا كثير.

 ولكي تعود هذه الأمة أمة وسطا متحضرة تهواها الأمم لتتعلم منها لأمم كما أرادها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وليس تتهالك عليها الأمم لتتوزعها لقمة سائغة فيما بينها، وجب عليها أن تتخلص من مخالب الثقافة الأموية المتلبسة بالفكر المسمى بالفكر الإسلامي  الذي بين أيديهم، الأمر الذي يتطلب منهم قصقصة منابع الفكر الأموي الذي يعمل على تغذيتهم بالعنف والتطرف والطائفية .

 وهذا يلزمها العودة إلى حقيقة المشروع الحضاري الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسيكتشفون منه أنه عين السنة  النبوية التي جاء لتأصيلها أهل بيته عليهم السلام  وعملوا على تجذيرها في الواقع العملي في الحياة وتعلمها منهم المسلمون من شيعتهم ومواليهم ومن هنا كرههم الأمويون وزجوا الأمة العريضة في نصب العداوة لأهل البيت وشيعتهم على طول التاريخ .

 فكانت حقيقة المشروع الحضاري ذاك هو موضوع السر السابع من أسرار منهاج التحضر والانبعاثة الحضارية المرجوة من هذه  الأمة، فقلنا في:

 السرُّ التاسع

  أن قطع مصادر التغذية الأموية يكمن في العودة إلى حقيقة مشروع الرسول في الحياة

 فإذا فهم المسلمون حقيقة المنهج الأموي المتجلية في ثقافة العنف والتفنن في قتل أهل البيت عليهم السلام وملاحقة شيعتهم ومن يحبهم     ويواليهم، وقتالهم بكل وسيلة بشعة، وإذا أدركوا أن ما يُصبُّ الآن على رؤوس شيعة  أهل البيت عليهم السلام ليس إلا من نتائج مشروع خططت له الأيادي الأموية وربّت الأجيال عليه، ورسمت له مناهج عنيفة بقصد وضع الأمة في مواجهة مع أهل بيت نبيهم الذين أمر الله ورسوله بطاعتهم واحترامهم وإجلالهم والأخذ منهم وأمر بمودتهم وجعلها فريضة واجبة وجوبا عينيا على كل مسلم ومسلمة.

فإذا ما أدركوا أن ذلك العنف كله من نتائج النجاح الباهر للمشروع الأموي في الانتقام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أزاحهم من العروش التي كانوا متربعين بها على رقاب الأمة، ومقدرات الإنسانية، والهيمنة على قدسية الديار قبل بزوغ فجر الإسلام.

وإذا وفق الله من أدرك هذه الحقائق التاريخية واكتشف المناهج الأموية المظلمة التي اُلقيت عليها مسوح القداسة والدين ونسبتها إلى السنة النبوية، فسيدركون عندئذ أن العنف الذي نجده الآن في العراق وغيره ما هو إلا من معطيات تلك المناهج الأموية التي تعشعشت في فكر المسلمين منذ القرون الغابرة، وتهالك وعاظ السلاطين في تربية الناس عليها، وحرص به طلاب السلطة في تطييف الدين بالعمل على ربط التدين بالعصبية الطائفية ضد أهل البيت، وذلك لصالح تسلطهم على العباد وتدميرهم الثروات والبلاد.

وإذا أدرك المسلمون ذلك فسيدركون أن عليهم السعي الحثيث والعمل الدؤوب على قطع مصادر التغذية الأموية ورموز الفكر الدموي العنيف الجاهدة على تحريفهم عن سنة نبيهم، وبها سيصلون إلى أن حقيقة الحياة تكمن في العودة إلى مناهج الرسول ومطالبه في بعث الحياة في الأمة والبشرية معها جمعاء، تلك المناهج التي كان عنوانها: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) .(1)

ذلك لأن الإسلام الذي جاء به رسول الله هو دين الإنسانية الذي أصّلته السنّة النبوية المطهرة وجسدته عمليا في محبة الإنسان واحترام البشر، بل والرأفة حتى بالحيوان بما لم تصل إليه أرقى المدنيات الديمقراطية قديما وحديثا.

وهنا وجب أن نتسائل: ما هي إذن معالم مطالب المشروع الذي عمل عليه رسول صلى الله عليه وآله  وسلم ؟ . 

والجواب على ذلك ما سنسلط عليه الضوء في بحثنا عن السر العاشر من أسرار النهوض الحضاري المنشود فنقول في بحث :

 السرُّ العاشر

 أن حقيقة مطالب الرسول تكمن في المنطلقات الحضارية التالية

أن حقيقة مطالب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  كثيرة لكني اوجزتها في المنطلقات الحضارية التي تمثل المعالم التالية:

 المعْلم الأول: الإسلام رسالة علم وتربية وليس جهلا وجاهلية

وهذه حقيقة قرآنية نص عليها كتاب الله وطبقها الرسول الأكرم وأصّل مناهجها أئمة أهل البيت وعملت على خلافها ثقافة السنة الأموية والسيرة السفيانية على طول التاريخ الإسلامي إلى هذا اليوم، وما واقع العراق علينا ببعيد.

وقد قال تعالى عن حضارية هذا الدين وإنسانيته (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) . (3)

فأول كلمة في أول سورة نطق بها الوحي مبلغا بها رسول الله ليعلمها البشرية هي كلمة (إقرأ) بعد البسملة، وأن سورة الرحمن ناطقة بذكر الرحمن الذي علم القران وخلق الإنسان وعلم البشرية البيان ليخرج من الجاهلية إلى الحضارية .

فبدأت السورة بذكر الرحمان ليعلّم الإنسانية الرحمة ويُعلمها انه (الرحمن) (4) الذي لم يترك القرآن مجهولا يفسره كلٌ حسب رأيه بل (علّم ) (5) نبيه الأكرم حقائق (القرآن) (6)، وهو الذي( خلق الإنسان) (7) فلم يهمله ليعيش وحشا كاسرا في الحياة يتخبط كيف فيها يشاء بل (علمه البيان) (8) وفهّمه منطق الحضارة والحياة، ونظّمها له فكان من حكمته أنْ كانت (الشمس والقمر بحسبان)(9) محسوب يجريان، فكل العالم له عابد مطيع (والنجم والشجر يسجدان ) (10) فخلق كل شيء بنظام وهو بحكته قائم ( والسماء رفعها ) (11) بدون عمد بقدرته، وبنى الوجود بدقته ( ووضع الميزان ) (12)  فيها كيلا يطغي شيء على شيء، ولما خلق البشر لم يتركهم ليكونوا وحوش غاب يقتل بعضهم بعضا، ويأكل فيهم القويُ الشرسُ الآمن المسالمَ، فكانت عدالته حاكمة في كل شيء، وكل شيء بميزان فأمرهم (ألا تطغوا في الميزان )(13) الذي بيّنه الله ووضعه لهم، وإذا كان الله قد أمر الوجود بطاعة والعمل بميزان بحكمته، وقبل الوجودُ ذلك كله من ربه لكونه مخلوقا على غير اختيار، فمن باب الأولى لم يكن ليترك البشر يجور بعضهم على بعض، بل أمرهم أنْ اعدلوا في الحياة (وأقيموا الوزن بالقسط ) (14) ونهاهم عن الحيف بأن تحذروا الجور (ولا تخسروا الميزان ) (15)لأن الحياة قد خلقها الخالق بميزان (والأرض وضعها للأنام) (16) لا ليدمرونها تدميرا ويخربوها على راس الإنسان، بل عمّرها العلي القدير ونوّع فيها كل شيء فكان فيها الخير الذي يحتاج إليه الإنسان وجعل ( فيها فاكهة ) (17) كثيرة متنوعة (والنخل ذات الأكمام ) (18) (والحب ذو العصف والريحان) (19) كل ذلك كي يفهم الإنسان انه لم يكن مخلوقا سدى، ولا لكي يسن لنفسه سننا وقوانين كما يشتهي، بل الذي خلق ورزق هو الذي وضع الموازين الحق، وأمره بطاعته، ومع هذا كله فان الإنسان كفار غشوم تغافل عن أن الله قد نهاه عن الكفر والتمرد، فلا يطغى ولا يشمخ بأنفه ويستكبر، وبعد كل هذا البيان (فبأي آلاء ربكما تكذبان ) (20) يا بني الإنسان ؟!

إن هذه السورة الكريمة تبين أول معالم التحضر التي أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الناس بها، ليكون من والواجب على كل من ينتسب إلى سنته العمل بمناهجه في الحضارة والتحضر وليس الهمجية والجاهلية الرعناء.

 المعْلم الثاني : حياة الناس غاية القرآن وليست القتل والإفساد

وهذه حقيقة غابت عن الكثيرين ممن يدّعون وصلا بالدين، وأنهم أئمة وعلماءاً للمسلمين، فاتبعهم على تدمير البشرية كثير من الغاوين وجموع المفسدين المتعطشين للدم والقتل والهيمنة على الحكم، والسيطرة على رقاب الناس، والإستثراء على طول التاريخ الإنساني التعيس، وقد صرح القرآن الكريم علنا عن حقائقه التي أرادها الله تعالى لإخراج البشرية المعذبة من ظلمات الجهل والقتل والدماء على رحاب الإنسانية والأمن والأمان والحرية وكرامة الإنسان كما في قوله  تعالى: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ) (21)

وهذا ما على خلافه والضد منه ثقافة المتوشحين بثقافة الإسلام الزائف التي تستخدم العنف باسم الدين وتحت شعار الخلافة الإسلامية وما شابه، ذلك لان الخلافة الإسلامية هي خلافة الله في الأرض ولها شروطها وأهلها ومستلزماتها ومن أول شروطها أن تكون منصوبة من قِبل مالك الأمر وهو الله تعالى، وإلا فمن غير المقبول عقلا ولا شرعا أن ينصب الناس لله خليفة من عند أنفسهم، لما في ذلك من فساد للحياة.

ولو صح ذلك في خلافة الله لكان من الأصح أن ينصب كل إنسان للآخر خليفة له في شؤونه ويتصرف بها وبممتلكاته في حال غيابه وسفره أو رحيله أو موته أو غيره.    

 المعْلم الثالث: عمارة الإنسان والإنسانية

وبهذا المعلم لن تجد منهجا في الحياة أسمى من منهج الإسلام الذي جعل إحياء إنسان واحد يعادل إحياء البشرية جميعا، وقتل إنسان واحد يعادل قتل البشرية جمعاء، وهذه أسمى قيمة تخلف عنها دعاة الدم وأنصار القتل وشورى الذبح وأعوان الجبارين وأدعياء الديمقراطية المتهادنين مع جزاري الإنسانية، من أجل مآرب سياسية دنيئة وسلطوية رخيصة.

فكان الإسلام داعيا إلى عمارة الإنسان، متسارعا إلى حياة الإنسانية وليس إلى خرابها ودمارها حتى صار (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) وقد بين الإسلام أنها دعوة للعالم يجب الالتزام بها فقال( ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات) ومع ذلك لم يترك القرآن التنويه عن الذين يعيثون في الأرض فسادا ويهلكوا الحرث والنسل فسماهم المسرفين بقوله ( ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ) (22)

 المعْلم الرابع: الاخوة الإسلامية    

وقد رفع الله قيمة الإنسان المؤمن بالله وكتبه ورسالاته وعدّه أخا للمؤمن الآخر فقال (إنما المؤمنون اخوة ) (23)  وقال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : (رب أخ لم تلده أمك) (24) وعلى هذا فقد نهى الله تعالى عن ذبحه وقتله إلا  أن يتجبر أحدهم فيعيث في ارض الفساد بعد أن يُنصب نفسه إماما للفاسقين بمرسوم أميري غاشم، ليفسد فيها ويهلك من يشاء فيعمل على خلاف مبدأ الاخوّة الإسلامية فيعتبره الإسلام مفسدا في الأرض وللمفسدين حكمهم الخاص بهم.

 المعْلم الخامس: الاخوة الإنسانية

في الوقت الذي رفع الله قيمة الإنسان المؤمن عاليا فقد أصر على رفع قيمة الإنسان الآخر وإن لم يكن مؤمنا فقال ( إلا  أنبئكم لم سمي المؤمن مؤمنا  لإيمانه الناس على أنفسهم وأموالهم إلا  أنبئكم بالمسلم، المسلم من سلم الناس من يده ولسانه ) (25) كما في نص الإمام الصادق عليه السلام.

وبناءا على هذا فإن ثقافة السنة الأموية لا تكترث بمؤمن ولا تعتني بغيره، وكل الإنسان عندهم والحذاء سواء. خلافا تعاليم السماء التي أكدت على القيمة الكبرى للإنسان، فهذا أمير المؤمنين عليه السلام يقول في تعليمه البشرية، ومخاطبا المسلمين ومؤكدا معالم السنة النبوية حينما كلّف أحد قادة جيشه إدارة شؤون الناس آمرا إياه في وجوب الاهتمام بالقيمة الحضارية للإنسان فأعلن له دستوره التاريخي بقوله عن الناس ( فانهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نضير لك في الخلق) (26)

ثم يأتي تأصيل هذا المنهج علميا وعمليا على لسان أئمة الحضارة والتحضر ومنهم الإمام الصادق عليه السلام فيعتبر: (صحبة عشرين سنة قرابة )(27)

كما أكد  أهل البيت عليهم السلام على إنسانية السنة النبوية التي اهتمت بالإنسان الذي أوجب أن يكون اجتماعيا بينما العف من ابرز معالم التقاطع والتدابر وقتل الترابط الاجتماعي، وبالتالي فالتمزق الاجتماعي من ابرز معطيات العنف الذي حاربه الإسلام.

والإمام الصادق يؤكد على هذه السنة الإنسانية المطهرة فيقول عن أبيه الإمام الباقر عليهما السلام قال:

(قرأت في كتاب علي (عليه السلام) : أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) كتب بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل يثرب أن الجار كالنفس غير مضار ولا آثمٍ و حرمة الجار على الجار كحرمة أمه) (28)

بينما تجد المسلمين الذين تثقفوا بثقافة العنف الطائفي يقتل الجار جاره والقريب قريبه والصديق صديقه لمجرد التطرف على أساس الهوية الدينية والولاء العقائدي والمحبة لأهل البيت عليهم السلام. وفي ذلك خروج على السنة النبوية التي عرفنا من معالمها إنسانية الإسلام .

 المعْلم السادس: الخير فيما يصلح الإنسان فقط

لقد حصر الإسلام الخير كله في كل ما يخدم الإنسان ويحترم الإنسانية، فجعل الشر مجتمعا في كل ما يضر بالإنسان ويفسد عليه حياته ويخرب استقراره، حتى بلغ الأمر بالإسلام إلى درجة المنع من النجوى بين اثنين أو جماعتين لتدبير أمر ضد إنسان أو جماعة أخرى، إلا أن تكون تلك النجوى للإصلاح وليس الإضرار بالإنسان والإفساد للمجتمع .

كما حرّم تبرير الفساد بمبررات يلقي بها الإنسان مسوح الشرعية والصلاح على فساده، ذلك لأن الله لا يطاع من حيث يعصى، وبذلك فإن الإسلام قد سلب الخير من النجوى إلا في الإصلاح والخير للإنسانية، فقال تعالى ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) (29) فتكون النجوى عندئذ في تدبير ما يفسد على الإنسان حياته ويقتله أو يربك استقراره ومعاشه من ابرز مصاديق ابتغاء غير مرضاة الله تعالى التي تظهر  وزرا عظيما بدل (أجرا عظيما).

ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وصاياه لأمير المؤمنين: (يا علي ! لا خير في قول إلا مع الفعل، ولا المنظر إلا مع المخبر، ولا في المال إلا مع الجود، ولا في الصدق إلا مع الوفاء ولا في الفقه إلا مع الورع، ولا في الصدقة إلا مع النية، ولا في الحياة إلا مع الصحة، ولا في الوطن إلا مع الأمن والسرور ) (30) فجمع انتفاء وجود الخير قولا وفعلا ، علما وعملا، فكرا وسلوكا إلا بما يصلح الإنسان ويسعد البشرية.

وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام على منبر الكوفة لجموع الأمة: (أيها الناس ثلاث لا دين لهم ، لا دين لمن دان بجحود آية من كتاب الله ، ولا دين لمن دان بفرية باطل على الله ، ولا دين لمن دان بطاعة من عصى الله تبارك وتعالى،  ثم قال : أيها الناس لا خير في دين لا تفقه فيه، ولا خير في دنيا لا تدبر فيها، ولا خير في نسك لا ورع فيه) (31) .

وبهذا فقد نفى الدين والتدين لمن تشربت نفسه بمعصية الله الذي أراد للإنسان العيش في أرضه وفق مناهج الخير والأمان لا مناهج القتل والتدمير والإهلاك والإرهاب والإرعاب، ليكون الأشر من ذلك إذا اقترف تلك الجرائم وتذرع أنه الخليفة لله ولا يريد إلا إقامة الخلافة الإسلامية المزعومة على جماجم البشر، ذلك أنه منهاج قطعي البربرية، حتمي الهمجية، لا يمت إلى الحضارية بصلة، بل إلى الوحشية الضارية.

 المعْلم السابع: تحريم منع الإنسان دوره في الحياة

وبهذا المَعْلَم  يكون الإسلام قد أسقط شرعية التعامل مع الإنسان بكل ما يشينه وعلى رأس ذلك الظلم السياسي والتجاوز على خصوصياته والتعدي على حيثياته وسلبه فرص العمل ومنعه من أداء أدواره الحيوية في بناء الحياة ومنها منعه وإعاقته والحيلولة دون كافة أنشطته السياسية والثقافية والفكرية والاقتصادية وغيرها، وهذا المعلم لمما يعمل على خلافه كل المتورطين في الشأن السياسي على هذه الأرض إلا من رحم الله.

وهذا النوع من الظلم هو الذي سماه القرآن بخس الناس أشيائهم فقال تعالى: ( فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ) (32)

فاعتبر الإسلام هذا النوع من الظلم في مناهجه نوعا فاحشا من الإفساد في الأرض فقال :(ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) (33) لأن الله تعالى قد أصلحها للإنسان وأرسى فيها مناهج اللازمة لصلاحها وإصلاحها.

إضافة إلى أنه قد عدّ البخس في حقوق الناس، المادية منها والمعنوية نوعا صارخا من الظلم الذي يؤسس للفساد في الحياة الدنيا والخسارة في الآخرة، فسمى كل الظالعين بهذا الفعل الشنيع مهما كان اسمه ورسمه وعلمه من المفسدين في الأرض والمخسرين، فقال: ( أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين. وزنوا بالقسطاس المستقيم . ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) (34)

من هنا يجب القول انه إذا كانت مناهج الإسلام قد عدّتْ ذلك التلاعب في الموازين نوعا من فاحشا من الظلم المعروف بالتطفيف في ميزان التعامل المادي لما يترتب عليه من الإضرار بالإنسان وانتهاك حقوقه والتجاوز على حدوده فكيف إذن بالأمر إذا كان التطفيف في ميزان التعامل المعنوي المؤدي إلى سلب الإنسان حريته، وتزييف قوله والتطفيف في فعله والطعن في إيمانه والتلاعب بحقوقه في الحياة، ومنعه من أداء دوره فيها والحيلولة من أدائه واجباته التي كلفه الله بها، وسخّر له من أجلها عقله وقدراته التي يجب أن يوظفها في بناء الحياة وخدمة الإنسان ؟

لابد أن يكون ملاك القضية اكبر من حصر التطفيف المنهي عنه بالماديات فحسب، بل يصبح من باب الأولى التحذير من مغبة التطفيف بالأمور المعنوية للإنسان، وخصوصا من مغبة هذه الثقافة وممارسة التلاعب السياسي في مقدرات الإنسانية فقال سبحانه ( ويل للمطففين . الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون . وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون . ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون . ليوم عظيم . يوم يقوم الناس لرب العالمين . كلا إن كتاب الفجار لفي سجين . وما أدراك ما سجين . كتاب مرقوم . ويل يومئذ للمكذبين . الذين يكذبون بيوم الدين . وما يكذب به إلا كل معتد أثيم .) (35)

 المعلم الثامن: التحذير من مغبة البغي على الآخرين

وعلى الرغم من بيان الإسلام لمناهجه الحضارية التي أوجب على المسلمين اتباعها والعمل بها والتربية عليها، فانه قد بيّن لهم عاقبة مخالفة المباني الحضارية التي أمر بها لما ستؤدي بفاعلها إلى البغي على الآخرين، لتكون عاقبة الفاعلين في نهاية المطاف أن يذوقوا في الحياة الدنيا مرارة بغيهم فضلا عن الدنيا، كما قال تعالى عن هذه الحتمية بكتابه: (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ) (36)

وقد أكد الإمام الباقر عليه السلام على أن: ( من سل سيف البغي قُتل فيه، ومن حفر بئرا لأخيه وقع فيها، ومن هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته..) (37)

وورد عن الإمام الصادق عن رسول الله عليهما الصلاة والسلام : (إن اعجل الشر عقوبة البغي) (38)

ومن هذا الثقافة والمعين المعرفي يتبين أن الإسلام يريد أن يضع معْلما مهما بين يدي الناس جميعا بما فيهم المسلم ليكون واعيا للحياة، متحضرا فيها، حذِرا من مغبة التمادي في البغي على الناس، وهذا المعلم من المعالم التي تخلف عنها المسلمون ووضعها السياسيون وراء ظهورهم فوضعتهم الحياة وراء تحت أقدامها.

 المعْلَم التاسع: وجوب إسقاط  ثقافة العصبية والتعصب

وذلك لما اسقط الإسلام كافة مصاديق التعصب الأعمى على حساب الحق وعدّها من حمية الجاهلية المحرمة وابتدأ ذلك بالإعلان التاريخي الكبير يوم (دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البيت (الحرام) عام الفتح ومعه الفضل بن العباس وأسامة بن زيد ثم خرج فأخذ بحلقة الباب ثم قال: الحمد لله الذي صدق عبده، وأنجز وعده، وغلب الأحزاب وحده، إن الله أذهب نخوة العرب وتكبرها بآبائها، وكلكم من آدم وآدم من تراب و" أكرمكم عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ " ) (39)

فكان من العصبيات التي أسقطها العصبية للعنصر واللون والقوم، والعصبية للحزب والرهط والجماعة وكلما يعمل على التفريق بين أبناء المتجمع الإنساني الواحد، فكان صريح مناهج الإسلام واضحا في محاربة هذا النوع من الصراع بين بني الإنسان، وقد أكد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  أن ( من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله في أعراب الجاهلية)(40)

وبعد هذا فأي إسلام أو تحضر لمن كان ملءُ قلبه ثقافة تعصب وليس حبة من خردل ؟ خصوصا ما نشاهده اليوم من التعصب للقومية الذبح على أساسها والعصبية للطائفة وسفك الدماء من اجلها وأمثالها في عالمنا كثير. 

 المعْلم العاشر: المنطق الحضاري  يأمر بعمارة الأرض

إن من ابرز ما يميز المتحضرين عن الهمج الرعاع والجاهلية الرعناء هو اهتمام المتحضرين بعمارة الأرض وبناء الحياة بينما اهتمام الجاهلية منصب على تدمير الأرض وخراب العمارة وإبادة المعالم الأثرية وعلى رأسها  معالم الدين والتراث والآثار. ولما كان الإسلام قد اعتبر الإنسان وأعلن تكريمه بلائحة (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) (41)  فكان من المفروغ منه الاهتمام بعمارة الأرض التي مهدها الله له ليعيش فيها ويهنأ بها لأنه ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) (42).

فيكون قد اعتنى بموجب هذا المعلم غاية العناية بالأرض وأمر الإنسان بعمارتها ونهى عن تدميرها لأن الذي خلقها وضع فيها وسائل العمارة ومناهج البناء وأمر الإنسان بالعمل على ذلك لا بهدمها، فكان المبدأ الحضاري الذي أمر به الإسلام هو الاهتمام بالبناء لا بالخراب وبالعمار لا بالدمار، لأن الأخير من شيم الجاهلية والبوار.

 المعْلم الحادي عشر: التنوع الإنساني من اجل عمارة الأرض

عادة ما يفهم البشر بما فيهم السياسيون والدينيون أن التنوع الإنساني مبعث لتخريب الأرض وتدمير الإنسان ودليل ذلك هو الصراعات التي تقوم على أساس العرق والدين والمذهب، وهذا على العكس مما عليه الأمر في دين الله الذي كرّم بني آدم وأرسى مناهجه على أساس احترامه وتقديره وبنى قواعد التشريع على الاعتزاز به وتحريم إهانته أو الانتقاص من شأنه والتلاعب في حيثياته والعبث في مقدراته تحت أي طائل أو مُسمى.

حيث اعتبر الإسلام أن كل دعوى تبرر هدر كرامة الإنسان وانتهاك مقدساته، وتسوّغ التلاعب في مقدراته هي مدعيات - دعاوى- جاهلية فارغة، مثل التفاضل بين بني البشر على أساس العرق والانتساب إلى القوم واللغة وكل ما يدفع الإنسان لأن يعتبر نفسه الأفضل من غيره مستفيدا من الاعتبارات الطبيعية التي جعلها الله تعالى في خلقه، كأن يعتبر الإنسان نفسه الأفضل لكونه عربيا أو كرديا أو هنديا أو فارسيا أو إنكليزيا أو غيره، الأمر الذي ينشئ ثقافة التمايز القومي والتفاضل العرقي الذي يتحول حتما وبالتدريج إلى صراع وقتال، وما بينهما انتهاك كامل للإنسان وتدمير للإنسانية وتمزيق للبشرية.

غير أن المبنى الحضاري الذي دعا إليه الإسلام هو أن الذي خلق التنوع الإنساني إنما خلقه لضرورات حضارية وغايات تكاملية استهدف منها بناء الحياة وعمارة الأرض وتلاقح الأفكار  واجتماع الطاقات وتآلف العقول وتحالف القدرات وتجمع الثروات في بناء الحياة على أساس  التكامل وذلك حينما أعلن القرآن الكريم (يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا). (43)

وهذا على العكس من مناهج الفكر الجاهلي وإن اعتبرت نفسها إسلامية زورا وديمقراطية كذبا وشتراكية خداعا للناس وتجبرا، لأنها تؤمن بل وتعمل على كل أساس من شأنه تبديد الثروات وتمزيق الشعوب وتناحر القبائل، فتجتهد في تفريق اجتماع الإنسان، وتضع للناس موازين للتفاضل على أسس ترسمها لذاتها، وتؤطرها بإطار من الخير المزعوم ليبرر لها تعصبها الحزبي والقومي والطائفي وغيره.

بعبارة أخرى: تجدها تعمل في التفضيل بين أبناء النوع الإنساني على أساس الأنانية، فتمزق ولا توحد، وتفرق ولا تجمع. فتعمل على النقيض مما حكمت به قوانين الفطرة التي خلق الله البشر عليها، وتقيم ثقافتها على منطق إنما خلق الله الناس شعوبا وقبائل ليتناحروا وليتحول المجتمع الإنساني إلى غابة والناس فيها إلى وحوش، وكل يحوز النار إلى قرصه؟ وهذه بالطبع ثقافة المسلمين عموما إلا  من رحم الله، الأمر الذي يعني أن عموم المسلمين لا يعملون بالمنطق الحضاري الذي أراده الله في دينه الذي يدعون وسنة نبيه التي بها يتشدقون.

 المعلم الثاني عشر: التفاضل بين الناس على أساس البناء

من المعالم الأخرى لمناهج الحضارة التي دعا إليها الإسلام وتباعد عنها المسلمون لتباعدهم عن السنة الحقيقية التي سنها رسول الله وأودعها أهل بيته عليهم السلام فتخلف المسلمون عن أهل بيته فعملوا بغير سنته.

ومن تلك المعالم أن الإسلام أمر بتأسيس كل شيء على أساس خدمة الإنسان وعدم إهانته والعمل على التكامل مع الإنسان الآخر على أساس حضارية التنوع الإنساني، الأمر الذي يتطلب أن يكون الإنسان على درجة عالية من الدقة والاحتياط في اتباع معالم تلك المنطلقات الحضارية التي يريدها الله تعالى له ومنه، وهذا ما عبر عنه القران الكريم بالتقوى وهي شدة المراقبة والمواضبة في الالتزام بكل المعالم الحيوية التي تنصب في خدمة الإنسان وحماية الإنسانية، فقال (إن أكرمكم عند الله اتقاكم) (44) أي أن أفضلكم وأكرمكم هو الذي يراقب نفسه ويجتهد في بناء الحياة وليس التهامها واكل الناس وأموالهم بالباطل وبناءا على ذلك فإن حقيقة التفاضل الحضاري هي التي تجعل الأفضل من يبني الحياة ويحمي الإنسان ويحترم المقدسات.

 المعْلم الثالث عشر: أمن الإنسان ومعاشه من أولويات التحضر

كل منهج يدعي الحضارة ويدعو إلى التحضر بعيد عن التحضر وأقرب إلى الجهل والجاهلية ما لم يهتم بحماية الإنسان ويضع أمنه واقتصاده ومعاشه موضع الاهتمام وفي سلم أولوياته في الحياة، ذلك لأن التحضر هو التعود على حضور مناهج الخير وحضور القيم في النفس والممارسة العملية بما يخدم الإنسان ويحفظ له أمنه وتطلعاته، وخلاف هذا تعتبر المناهج جاهلية غير حضارية لأنها ستكون ضالعة في إرهاب الناس وإرعابهم، متشوقة إلى تدمير اقتصادهم، متمرسة في زعزعة استقرارهم، وإرباك اجتماعهم.

وتلك حقيقة أكدت عليها مناهج الإسلام في هذه الحياة، في كل موضع وموضع طبق الرسول معالم المناهج التي يريدها للناس بما يؤصل فيهم معالم الحضارة، فخاطب عبادة بطاعته والتزام منهجه لأنه قد منّ عليهم بأكبر عاملين من عوامل البناء الحضاري وهما تأمين المعاش وتوفير الأمن بقوله(فليعبدوا رب هذا البيت الذي آمنهم من خوف وأطعمهم من جوع) (45).

وبهذا الإعلان الكبير يثبت زيف كل الداعين إلى الإسلام من الذين يلتزمون مناهج التدمير الاقتصادي للإنسان، وتخريب حياته، وإرهاب أمنه، وإرعاب نفسيه وإفساد اجتماعه.

 المعْلم الرابع عشر: المنع من التصرف إلا  بما هو خير للمجتمع

الإسلام يمنع من التصرف في الحياة إلا  بما يكون صالحا للإنسان نافعا للمجتمع، وبهذا يؤكد الإسلام في مناهجه الحضارية على قيمة الإنسان وأهمية التعامل معه بما يليق به كإنسانٍ رفعه الله تعالى إلى أعلى مراتب المخلوقات على هذه الأرض فقال (ولقد كرمنا بني آدم ) ولم يكتفي بهذا بل قال(وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات) ليتمتع بها ما يشاء حتى قال ( وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)(46)

فلهذه القيمة الكبرى ألزم بل أوجب بان يكون التعامل مع الإنسان بما يناسب هذا المقام وينسجم مع هذا التكريم، فلا يحق لأي أحد أن يتكلم مع الآخر مثلا إلا  بأحسن الخطاب وأسمى معاني التعبير، فلا يغمز، ولا يطعن، ولا يؤذي فقال ( وقولوا للناس حُسْناً) (47) لأن الكلام عمل مؤثر في الحياة سلبا أو إيجابا كما بيّنه أمير المؤمنين عليه السلام بأن (الكلام ذكر والجواب أنثى فإذا اجتمع الزوجان فلابد من النتاج) (48)  من هنا لزم أن يقول الإنسان حُسْناً للناس، لأن القول إما يهدم أو يبني, ولأن الإسلام يهتم ببناء الإنسان وحياته لزم أن يكون القول في حقه منسجما مع المعايير الإنسانية التي يريدها الإسلام للإنسان.

وقد أكدت الثقافة والتربية القرآنية التي بينها أهل البيت عليهم السلام ومنها تفسيرهم لهذا الآية الكريم بما يركز حضارية الإسلام كما ورد عن حفيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، الإمام الباقر عليه السلام : ( في قول الله عز وجل " وقولوا للناس حسنا" قال: قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال فيكم ) (49)

وبهذه التربية وهذا المفهوم فقد بلغ التأكيد على حسن الكلام والقول للناس، وفي وسط الناس، وعدم التسرع، مبلغا وصل إلى الدرجة التي أوجب على الإنسان الحيطة والحذر في القول بالغا ما بلغ ولو بمقدار شطر كلمة لأنها قد تؤدي إلى قتل إنسان أو خراب مجتمع أو تدمير حياة.

فقال السنة النبوية على لسان الإمام الصادق عليه السلام : ( من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينية مكتوب: آيس من رحمة الله) (50) .

من هنا يتبين أن شطر كلمة مثل(أق) وهو جزء من كلمة (اقتل) إذا نطقها أحد في حق آخر، أدتْ به لأن يكون آيساً من رحمة الله. وهذا هو شطر كلمة من القول في حق إنسان فكيف بمن وشى به ودلّ عليه وأشار إليه ؟ وكيف بمن قتل ومن ذبح ومثّل وأمر بقتله؟ وكيف بمن أفتى وشرّع قتل الإنسان ؟

وكيف بمن احرق وأرعب وأرهب؟ ؟ فهل سيكون مجاهدا (؟) من الطراز الرفيع أو ممن يري إقامة الخلافة الإسلامية المزعومة كما هو حال الإرهابيين في عراق اليوم؟

أم سيكون من اتعس الآيسين من رحمة الله ؟ 

وبعد ذكرنا لبعض المعالم الدالة على حقيقة مطالب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في تجذير المنطلقات الحضارية للحياة في نفوس البشر عموما والمسلمين خصوصا، وجب الإذعان إلى أن تلك المطالب الإنسانية مِمّا لن يرغب بها طلاب السلطة، بل يكرهها عشاق الهيمنة، ويتبرم منها كل المتزلفين لهم من وعاظ السلاطين وأئمة الفتوى المتلهفين على فتات العيش الرخيص وحطام الهدف الخسيس.

هذه الفئات من السياسيين ووعاظ السلاطين ستعمل على محاربة هذا الوعي الحضاري من أجل الإبقاء بالمسلمين على درجة كبيرة من الفساد الفكري والتردي العقائدي من أجل زج العامة من الأمة نحو التخلف ليشكلوا لها الغطاء الذي يسبح به الجبابرة ومن حولهم من وعاظ السلاطين وأئمة الفتوى المأجورين، في هذا الزمان وفي كل زمان.

وهذا هو واقع امتحان العامة من هذه الأمة في اختبار وعيها بانتهاج سبل الحياة والسلم والبناء، أو سبل الدمار والعنف والفساد، وكذلك حقيقة امتحانها الواجب عليها لتأتي مبيّضّة الوجه أمام نبيها يوم يلقونه، فيجدون أنفسهم بين يدي نبي الله الذين رفعوا لواء الالتزام بسنّته فيكتشفوا بأنهم كانوا الأبعد منه ومن سنته، لانتهاجهم مناهج الأمويين وسنتهم وسيرة الجبابرة ومسلكهم، وذلك يوم يقول الله تعالى للإنسان: (فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد) (51) - سورة ق/ آية 22

 فيكتشفوا أنهم على غير سنته بسبب تنصلهم عن مناهج الحياة التي أرادها لهم، فزج بهم الفكر الأموي نحو قتل الإنسان وانتهاك حُرماته، وفي مقدمته أئمة الخير ودعاة الحضارة وزعماء التحضر وهم أهل البيت عليهم السلام !

من هنا يتبين أن الأمة الإسلامية بعيدة هذا اليوم كما هو حالها بالأمس عن مناهج الإسلام ومطالب الرسول في الرفق وترك العنف ونبذ الأحقاد واحترام الإنسان لكونها متورطة في مناهج العنف الذي أرسى قواعده الأمويون ومن كان على أحلامهم .

فجب عندئذ على الأمة التخلص من براثن الفكر الأموي المتسرب إلى ثقافتهم وممارستهم وفهمهم للحياة. والعمل بموجب تلك المنطلقات الحضارية التي لم تبلغها حتى أحلى الديمقراطيات شعارا.

أما كيف يمكن لهذه الأمة العمل على تلك المنطلقات ؟ ومن أين تجدها ؟ وعلى يد من يجب أن تتربى وتتلقى تعليمها وثقيفها ؟

خصوصا وأن كل فرد وجماعة في هذه الأمة تتدعي المعرفة والعمل بموجبها بينما واقع الحال يشير إلى خلاف ذلك حيث التمزق والإرهاب والقتل وشلالات الدم على الهوية والمحبة لأئمة الإنسانية ودعاة الخير والسلم والسلام. ولكي نشخص بالدقة منابع الفكر الحضاري بموجب تلك المنطلقات يجب علينا الوصول إلى حقيقة معرفة أئمة الحضارة ودعاة التحضر والرجال الذين يملكون القيمومة على تلك المعالم والمباني الحضاري في الحياة .

وهذا ما سنبحثه في السر الحادي عشر من أسرار الانبعاث الحضاري المنشود لهذه الأمة ومنها، وهو موضوع الحلقة القادمة بحول الله تعالى.