تطور مفهوم الديمقراطية
حسن حافظ
الديمقراطية ممارسة سياسية واجتماعية واقتصادية، تذوب فيها النزعة الفردية أمام النزعة الجماهيرية لتحقيق هدف كبير يصب في صالح الجماعة. اذا كانت المجتمعات القبلية هي السائدة في صراع دائم وهي التي كانت تحكم بزعامة رئيس القبيلة، ثم تطور هذا الصراع بتطور المجتمعات حيث نشأت المدن، فبدأ الصراع على حكم المدينة، ثم على طريقة الوصول الى حكم الدول الجديدة التي بدأ نشؤوها وبعدها تأجج الصراع بين الدول عبر التاريخ واذا كان العصر الوسيط قد اتخذ اشكالا اخرى في الصرلع حول ثروات الامم والاستيلاء عليها، الى ان بدأت المفاهيم العصرية تأخذ طريقها بعد تطور المجتمعات، للتسليم بالامر القائل بان الشعب هو صاحب السلطة، وذلك عبر قفزات تاريخية متباعدة احيانا، حيث نلاحظ ان الخط البياني بدأ يمتد لينحرف باتجاه اعادة السلطة لاصحابها الشرعيين(وهي الجماهير).. ولعل هنا اول ما يتبادر الى الذهن هو ذلك السؤال المحير.. ما هي الديمقراطية؟ بل لماذا الديمقراطية؟ للاجابة على هذا السؤال لابد للانسان من ان يتوه، لتعدد المفاهيم غير الواضحة او غير المحددة فالجواب عليها يتحدد احيانا وفقا للمنظور الشخصي دونما تحديدات سياسية او دستورية محددة فالديمقراطية هي ممارسة سياسية واجتماعية واقتصادية تذوب فيها النزعة الفردية امام النزعة الجماهيرية من اجل تحقيق هدف كبير هو صالح الجماعة. والديمقراطية لا تعني في جملة مفاهيمها التسطير النظري بل انها تكمن في الواقع التطبيقي لها.. فلا بد للوصول بها الى صيغة ثابتة لممارسة الديمقراطية بصورة لا تتغير بتغير الظروف او انها تتأثر لدى محاولة النيل منها بعض الفقرات، فالديمقراطية هي سلوك ومنهاج، وهي على العكس من الديكتاتورية التي هي الفوضى بعينها حيث يكون السلوك فيها مزاجيا حسب تقلبات واهواء الحاكم مع استعمال السلطة والجبروت مع الشعب. وقد ورد في قاموس اوكسفورد بان الديمقراطية هي( شكل من انواع الحكومات، حيث تشارك فيها جميع الشرائح الاجتماعية في اختيار ممثليهم في الحكومة، ويشمل هذا التعريف ممارسة الشعب لحقوقه وحرياته كافة، بما فيها حرية الفكر والمعتقد والتعبير عنها بجميع الوسائل، انطلاقا من المبدأ المعروف ان الناس متساوون امام القانون في الحقوق والواجبات( ص308 وقد اصبحت الديمقراطية، دون جدل وباتفاق جميع الفلاسفة واصحاب المذاهب السياسية تفترض بالضرورة استقرار السيادة في الشعب، وقد دأب الفلاسفة حتى اللاهوتيون خلال قرون عدة، على القول بان الشعب هو صاحب السيادة وهو القابض الاصيل الذي يمتلك قوة التصميم او الارادة العزوم للوصول الى السلطة، بيد اننا لو عدنا للنظريات لادركنا ان الاختلاف كبير بينها وهذا الخلاف ينصب حول المدلول الذي تعطيه كل واحدة منها للشعب الذي هو(السيد) ولقد تجاذب هذا المدلول نظريتان ظهرت دقائقهما خلال القرن الثامن عشر بوضوح. النظرية الاولى تقول: ان السيادة عندها تتمركز في كل فرد من افراد المجتمع وهذا يعني ان سيادة الشعب ليست الا جمعا للسيادات الفردية..اما النظرية الثانية، فقد حددتها المادة الثالثة من اعلان حقوق الانسان التي تنص على(ان مبدأ كل سيادة انما هو في الامة ولا يستطيع اي شخص او هيئة، ممارسة سلطة لاتصدر عنها) وقد عنت هذه النظرية بان(الامة) بكليتها شخص معنوي قانوني يختص وحده بحق السيادة وهكذا اضحت السيادة حسب هذه النظرية (تنحصر بالامة كلها وبشكل مجرد لا في كل فرد او مجموع من الافراد مهما بلغ عددهم وليست هي بالتالي مجموع الارادات الفردية المتفرقة سامي عبدالصادق/ ديمقراطية ام لا ص31). اما واجب الافراد حسب هذه النظرية، فهو ان يظهروا ارادتهم وفي الوقت نفسه ان يعترف المجموع لهم بها، واظهار الارادة هذا يتم بواسطة(التمثيل او النيابة). وهكذا فان القانون بحسب هذه النظرية انما هو التعبير عن الارادة العامة، كما ورد ذلك في المادة السادسة من نفس اعلان حقوق الانسان.. اما النظرية الاولى التي يمكن تسميتها بالنظرية الواقعية، فهي التي اطلقت على الشعب وهي المجموعة التي يمنحها اجتماع البشر حقيقتها الاجتماعية التي اعتبرت(ان سيادة الشعب هي مجموعة السيادات الفردية) لقد نادت هذه النظرية بان صاحب السلطة هو الشعب الحقيقي، وتبعا لهذه النظرية فان القانون يستخلص سلطته من امال ورغبات الافراد الواقعيين الذين يفرضونه، الذي نتوصل اليه من خلال ذلك، ان بامكان هؤلاء الافراد الواقعيين، تبعا لهذه النظرية (اجبار) الحاكم على ارضاء مطالبهم.. ان التصور الواقعي عن مفهوم السيادة، هو الذي ادى الى افراز قوى فعلية فرضت نفسها وهذه القوى هي التي ندعوها بـ(السلطات) الفعلية الواقعية التي تتمثل في القوى التي ينشئها (تجمع ما) التي تشكل بحد ذاتها وبمجرد وجودها تناقضا مع الفكرة الكلاسيكية للسيادة والديمقراطية (المصدر السابق) وتتجسد هذه السلطات في عدد مهم من الافراد وتطبعهم بطابع تجعلهم يعبرون عنها في المطالبة بنظام سياسي مرغوب فيه، وهذه السلطات الواقعية المقصود بها النقابات والاتحادات والاحزاب السياسية وبقية المنظمات التي تندرج ضمن منظمات المجتمع المدني NGO ويطلق عليها المنظمات غير الحكومية. كما ان وجود الاحزاب ان دل على شيء فانما يدل على ان السلطة ايا كانت التصورات التي تجعل منها اداة للتعبير عن الشعب، التي هي في الحقيقة لا تمثل الشعب بكليته، ولا تساير مطالبه وطموحاته كافة، ومع ذلك فان تلك الاحزاب والمكونات الاساسية والمنظمات غير الحكومية، هي بالضرورة، تكون (متنفساً) لهذا التصور الذي يتمثل في عدم تمكن السلطة، من الاستجابة للتطلعات الشعبية كلها..لان اغلبية الشعب، هي غير مندرجة ضمن تلك الاحزاب الممثلة للسلطة، اذ نجد ان هنالك كثرة من الناس من يطلق عليه بـ(المستقل) مع اننا قد نجد في نفسه (هوى) مع هذا الحزب او مع ذلك التيار السياسي، الا انه ليس عضوا فيه، انما يتعاطف معه، لاقترابه قليلاً او كثيرا من الفكرة التي يحملها هو، كما ان هناك الجماعات المضطربة الولاءات، التي لا تملك وضوحا سياسيا كافيا،فقد تجدها مرة مع هذا الحزب، ومرة مع ذلك الحزب، ومرة اخرى يرفض الجميع اذ يتخذ موقفه عندئذ حسب هذا التصور، دون ان (يمحص) الرأي او ان يكلف نفسه للبحث عن الحقيقة او جذورها واين يضع قدمه منها. على اية حال فقد شاع تعبير الديمقراطية وذاع، حتى اصبحت هذه الكلمة وكأنها كلمات استهلاكية في الميادين السياسية والاجتماعية، واضحت في اكثر من مكان ستار للانظمة كائنة من كانت وسلاحا تحارب به الانظمة خصومها،سواء على الصعيد الدولي، او على الصعيد المحلي،فباسم الديمقراطية تعمل الدول صغيرة كانت ام كبيرة على شن الحروب،وباسم حماية الديمقراطية نجد دولا اخرى تبسط هيمنتها على الدول الصغرى، كما يذهب الى ذلك الاستاذ عبد الفتاح شحادة (الديمقراطية والمفاهيم المعاصرة ص9) واذا كان (البرلمان) يمثل الصيغة المثلى الحديثة للديمقراطية،لذا فان البرلمان بحد ذاته وبمجموع اعضائه لا يمثل اكثرية الناخبين المقيدين..اذ ماذا تمثل الاغلبية البرلمانية فعلا وايا كانت هذه الاغلبية وهي الاغلبية التي تصوت على قانون ما، فهي لم تتعد اغلبية الحاضرين في جلسة برلمانية عادية، انعقدت عند اكتمال النصاب، اي بمجموع يعادل نصف عدد النواب زائدا واحداً.. كما ان الاغلبية البرلمانية التي تكون في الواقع، لا تمثل سوى اقلية من افراد الشعب، وحتى ممن لهم حق الانتخاب، فان هذه الاغلبية تكون عادة خاضعة لسيطرة عدد ضئيل من زعماء حزب الاغلبية، ونرى ذلك في الواقع في دولة تعتبر من اعرق الدول الغربية في الديمقراطية البرلمانية كبريطانيا مثلا، اذ ان الاغلبية في مجلس العموم، خاضعة فعلا لقيادة الحزب الذي تنتمي اليه، سواء اكان هذا الحزب هو حزب العمال ام حزب المحافظين. فالبرلمان في هذه الحالة يفترض فيهم ان يعملوا باخلاص لصالح الشعب، وليس لاهوائهم ومصالح احزابهم، ولهذا فان الاهتمام من قبل اعضاء البرلمان يجب ان ينصب على القيام بواجب اساسي تجاه الشعب فكثيرا ما نسمع لدى التصويت انه قد خرج على رأي الحزب، كذا عضو، وصوت ضد قانون ما، أو مشروع معين وهذا عندي منتهى الحرية والاستقلالية في اتخاذ القرار الصائب، حتى و ان كان ينتمي الى حزب ما، متى ما صارت لديه قناعة تامة، ان هذا القرار او المشروع الفلاني، او القانون الذي يجري تشريعه يتقاطع مع مصلحة الشعب وقضاياه الحيوية.. كما ان الدخول في البرلمان، لايعني ان هذا العضو، قد امتلك ناصية العلوم الادارية والسياسية والاقتصادية في بلد ما، فهو يمثل وجهة نظر سياسية لحزب ما، حتى عندما يكون مستقلا فقد يفوز في الانتخابات لاعتبارات خاصة، بعيدا عن الكفاءة، فهو أما ان يأتي ممثلا لجهة دينية او قومية، او لشهرة هو عليها او لثروة يمتلكها، واحيانا قد يأتي ممثلا لقبيلة ما، الا انه لايمتلك المقومات الثقافية او السياسية اللازمة، من هنا يتعين علينا الا تصيبنا الدهشة ان شاهدنا اعضاء في المجالس البرلمانية الغربية، ممن لا يمتلك كفاءة تذكر، خذ فرنسا مثلا، وهي من الدول المتقدمة، نجد ان الاستاذ (بارتلمي) يشن هجوما على بعض اعضاء البرلمان الفرنسي، الى درجة انه يتهمهم بالقول (انه يوجد بين اعضاء البرلمان الفرنسي من لا يصلح للعمل في اية وظيفة من الوظائف في اصغر المقاطعات) (بارتلمي مشكلة الكفاءة في الديمقراطية ص52) بينما نجد ان الاستاذ (غيز) يضع لنا صفات لممثل هذا البرلمان حين يقول ان طرقة اللسان، واللياقة والجرأة والخداع هي الصفات الاساسية التي تكفل النجاح، وان الذكاء والمعرفة والخلق هي صفات تاتي في المقام الثاني (غيز/ المبادئ العامة للقانون الاداري ص 415) اننا هنا لانريد ان نجعل من شخصية ممثل الشعب (النائب) محورا لحديثنا عن الديمقراطية. كما لانريد ان نجري تقييما لدوافع الترشيح والمنافسة واثبات الذات، كما يفعل البعض من المشاكسين في الفضائيات، ويدعو الى عقد المؤتمرات والندوات، وبذل اقصى ما يستطيع بوسيلة يحاول فيها ان يصنع من نفسه بطلا (موهوما) الا انه يعمل على زرع الفرقة، بدلا من ايجاد نقاط مشتركة للتلاحم والسير بهذا الوطن نحو بر الامان نراه يهدد ويتوعد على طريقة (كالهر يحكي صولة الاسد!). و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور. المصدر: جريدة الصباح -23-5-2006
|