استراتيجية "الإبداع الفوضوي"

 

آلفن توفلر

 

تسريع وتيرة البحوث ودوره في إعاقة تطور العلم

لستَ بحاجة لأن تكون ماركسياً أو ماوياً أو حتى مرجعاً في الفلسفة الهيجلية حتى تتمكن من اكتشاف تناقض ما يحدث أمامك. وعلى الرغم من أن ماركس وماو وهيجل، بنوا نظرياتهم الفلسفية والسياسية على هذا المفهوم "التناقض" إلا أن أياً منهم لم يتوقع حدوث تناقض معين يعتبر من أكثر التناقضات التي نراها اليوم من حيث الأهمية.

يمكننا أن نقول إنه من بين الخصائص المميزة لعصرنا الحالي تلك الخاصية المتعلقة بتسريع معدل التغيير في مجال الأعمال وخصوصاً التمويل. ومن بين التداعيات الرئيسية التي ترتبت على ذلك صفة عدم الصبر الذي أصبح يتسم بها المستثمر، والضغط المتزايد ليس من أجل الحصول على عوائد ولكن من أجل الحصول عليها بوتيرة سرعة تزداد بشكل دائم.

هكذا وحسبما تقول صحيفة "الفاينانشيال تايمز"، انخفض متوسط الوقت الذي يتمسك فيه المستثمر بسهم لصندوق مشترك مثلاً بدرجة كبيرة يقدرها البعض بثلثي الوقت الذي كان يفعل فيه ذلك من قبل. كما جاء في مطبوعة "يوريبيان بيزنس جورنال" أن المديرين العامين، ومجالس الإدارات، باتوا يشعرون بأن هناك ضغطاً متزايداً يمارس عليهم لتحقيق النتائج في الأمد القصير. كما ورد في مجلة" التايم" أيضاً أن المؤسسات، وتحت الضغط المتزايد الذي تتعرض له من جانب حمَلة الأسهم لتحقيق أرباح سريعة أصبحت تركز على المشروعات قصيرة الأمد.

والذي يشجع المديرين العامين ومجالس الإدارات على ذلك هو ما يتلقونه من نصائح استراتيجية من المستشارين وأساتذة إدارة الإعمال. وهكذا فإننا نجد أن عدداً صدر حديثاً من مجلة "هارفارد بيزنس ريفيو" المحترمة يتضمن ورقة بحثية أعدها ثلاثة خبراء يقومون، اعتماداً على نظرية قدمها البروفيسور "كلايتون كريستينسن" عام 1997، بتوجيه النصيحة إلى المديرين التنفيذيين باعتماد استراتيجية تقوم على ما يعرف بـ"الإبداع الفوضوي".

يقول هؤلاء الخبراء إن المقصود بهذه النظرية هو أنه بدلاً من السعي إلى إنتاج منتجات تمثل اختراقاً أو طفرة بغرض توزيعها على الأسواق الجديدة، فإن الأفضل بالنسبة للشركات بدلاً من ذلك هو أن تقوم بطرح نسخ مبسطة ورخيصة من المنتجات التي تقوم بإنتاجها بالفعل، أي نسخاً أرخص تكلفة وأسهل استخداماً، ويمكنني أن أضيف إلى ذلك أيضاً، أسرع تصميماً وإنتاجاً وبيعاً.

بالطبع، إذا ما قامت جميع الشركات عملياً باتباع هذه النصيحة، وخفضت إنفاقها على البحوث الرامية لإنتاج سلع تمثل طفرات أو اختراقات، فإن مثل هذه السلع ستختفي، وستظل الشركات بعد ذلك مشغولة ببحوثها الأساسية.

والآثار السلبية الناتجة عن سعي مجتمع الأعمال لتحقيق مردودات قصيرة الأمد تتفاقم بتأثير قوة تتحرك في نفس الاتجاه. لذلك، فإن ما يعرف بـ"قوة الواجب المنوط لمستقبل الإبداع الأميركي" التي يشمل أعضاؤها شركات مثل مايكروسوفت، ولوسنت، وإنتل، تقول: "منذ الثمانينيات كان هناك تحول ديناميكي يحدث في مصادر تمويل البحوث والتطوير حيث كان القطاع الخاص يقدم 68 في المئة من إجمالي الأموال المطلوبة. ومن بين هذه الأموال التي كان يقدمها الخاص هناك 71 في المئة مخصصة لتطوير النماذج الأولية، وتحسين المنتجات،وليس للبحوث الأساسية".

وكما يشير هذا التقرير فإن "التمويل الخاص" يتجه نحو الدوران في نفس اتجاه أنماط الأعمال السائدة، مما يجعله يركز بالتالي على النتائج قصيرة الأمد، وهو ما يؤدي إلى زيادة حجم ووتيرة التحول بعيداً عن العمل الأساسي بعيد الأمد.

على نفس المنوال نجد أن التمويل الحكومي يتحول نحو الأمد القصير، بدلا من البحوث الأساسية. ولا يقتصر الأمر على ذلك حيث إننا نجد أن وكالة مثل "وكالة مشاريع البحوث المتقدمة" التابعة لوزارة الدفاع، التي تمثل مركز البنتاجون الأسطوري، المعروف باعتماده على البحوث التكهُنيَِّة بعيدة الأمد، التي أدت ضمن قائمة طويلة من الاختراقات إلى التوصل إلى اختراع الإنترنت، تتعرض هي الأخرى الآن للضغط كي تركز على المشروعات ذات المردود السريع.

وبحسب صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" فإن "الولايات المتحدة تقوم -دون أن تدري- بوضع نفسها في موضع يجعلها معرضة لهبوط طويل ومطرد في مجال البحوث الأساسية -التي تعتبر محركاً رئيسياً من محركات التقدم الاقتصادي- في الوقت الذي يقوم فيه منافسون من أوروبا وآسيا بملاحقة نظرائهم الأميركيين بشكل حثيث.

وعلى الرغم من أن الصين استثمرت 6 في المئة فقط من إجمالي إنفاقها على البحوث والتطوير على البحوث الأساسية تحديداً، مقارنة بـ18 في المئة للولايات المتحدة، و13 في المئة لليابان، فإن "قوة الواجب لمستقبل الإبداع الأميركي" تقول إن "الصين تنوي زيادة الجزء المخصص للبحوث الأساسية من إجمالي إنفاقها العلمي بنسبة 200 في المئة خلال العشر سنوات القادمة" ليس هذا فحسب بل إننا نجد أن الدول الصغيرة التي تطرق أبواب عصر المعرفة تقوم بزيادة استثماراتها في البحوث الأساسية. فجمهوريتا التشيك والمجر على سبيل المثال لا الحصر قامتا بإنفاق نسبة تقدر بـ25 في المئة من إجمالي إنفاقهما في مجال البحوث والتطوير على البحوث الأساسية تحديداً خلال عام 2002. وبالنسبة لجمهورية أيرلندا كانت هذه النسبة 12 في المئة عام 2000.

وينقلنا هذا مرة أخرى إلى موضوع "التناقض" الذي أتينا على ذكره في بداية هذا المقال. إننا نجد في الوقت الراهن أن الحكومات، ومشروعات الأعمال في الولايات المتحدة وغيرها من الدول المتقدمة صناعياً، تتراجع بشكل عام عن البحوث طويلة الأمد التي تؤدي عادة إلى تحقيق اختراقات عملاقة.

لقد كانت البحوث الأساسية، على الرغم من كل شيء، هي التي قادت إلى اختراع "أشباه الموصلات" Semi-conductors والليزر، والبنسيلين، ومصل الشلل، وأقمار تحديد الموضع عالمياً، بالإضافة إلى عدد لا يحصى من المنتجات التجارية التي نبعت عنها والتي نشاهدها حولنا في كل مكان الآن.

قد يبدو ما أقوله متناقضاً.. ولكن الدول والشركات التي تقلل من درجة التركيز على البحوث الأساسية، تقوم بتسريع وتيرة البحوث عند القاع وإبطائها عند القمة -وهي التي تهم حقاً- وهي بذلك تقوم بإبطاء معدل سرعة ذلك النوع من البحوث، الذي يؤدي إلى تسريع وصول المستقبل.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس

و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور.

المصدر : الإتحاد الإماراتية -22-5-2006