مراكز الأبحاث في العراق نظرة مستقبلية
نعمة العبادي*
لمحة تاريخية لا خلاف في ان مؤسسات الابحاث، هي واحدة من المؤشرات الواضحة على رقي الدولة وتطورها وفهمها وتقييمها للعلم ودوره في رسم السياسة الصحيحة، وبالتالي يمكننا ان نستدل على حال احد الطرفين من معرفة حال الطرف الاخر، فماذا نتوقع ان يكون حال المؤسسات البحثية في دولة يتعاقب على حكمها( سلاطين وحكام) يصلون الى سدة الحكم بثورات دموية وانقلابات عسكرية تلزم الجميع ان يدوروا في فلكها وفي غالب الاحيان يعاني هؤلاء الحكام من عقدة الكراهية للعلم والعلماء والمؤسسات التي تشتغل على بناء الانسان الواعي المدرك لكل ما يدور حوله. من هنا لا يمكننا ان نؤرخ لمؤسسات بحثية حقيقية وجادة في الفترة التي سبقت لحظة الخلاص وخصوصا المشتغلة في مجال الابحاث السياسية، وهذا القول لايساوي عدم وجود مؤسسات تحمل عناوين تتصل بهذه الموضوعات. وقد مر (مركز الدراسات الدولية) التابع الان لجامعة بغداد بعدة مراحل من لحظة تأسيسه في الثمانينيات وكان قسماً ملحقاً بكلية العلوم السياسية، الى ان استقل بنفسه وهو يجاور بناية الكلية الان. وكذلك ( مركز دراسات الوطن العربي) في الجامعة المستنصرية، مركز الدراسات الفلسطينية ومركز البحوث والدراسات فكل هذه المراكز فضلا عن مجموعة اخرى تشتغل على موضوعات (سياسية، اقتصادية، تربوية، اجتماعية).تابعة الى مؤسسات حكومية تحت اشراف الدولة. ومع احترامنا الفائق للكثير من الشخصيات العاملة في هذه المراكز فانها كانت تمارس دور التزيين والدفاع عن السلطة السابقة وتقوم باعداد التبرير النظري لتلك السياسة الرعناء فضلا عن اقامة البحوث والدراسات التي تدخل ضمن مطالب السلطة وحاجاتها، او محاولة خلق ثقافة معينة ترغب السلطة بتسويقها، ولعل دراسات مثل(الشعوبية، العدوان الفارسي، الامة العربية والقومية، شخصية القائد الرمز،..). ومن جهة اخرى لعبت تلك المراكز دوراً مهماً في عمل الاجهزة الامنية خصوصاً (جهاز المخابرات) فقد كان له ارتباط وثيق ورعاية لمركز البحوث والدراسات . . لذا فان التاريخ الحقيقي لمؤسسات الابحاث في العراق يبدأ من لحظة التغيير في 9 نيسان 2003. حيث توجهت مجموعات كبيرة من ابناء الشعب العراقي لتأسيس مؤسسات مجتمع مدني، عملت على استحقاقات مختلفة وكان منها مراكز الابحاث والدراسات، بل ان المؤسسات البحثية الحكومية التي أشرنا اليها سابقاً اخذت تصحح من طريقها واستفادت من جو الحرية السائد في البلد وقد اثمر ذلك الكثير من الاعمال المقبولة . ولكن ومع التوجه الكبير لإنشاء مؤسسات مجتمع مدني، بقيت مراكز الابحاث نادرة، فلا تمثل الا نسبة ضئيلة جدا بالقياس الى المؤسسات الاخرى، ولا تتجاوز المؤسسات البحثية المسجلة في وزارة الدولة لشؤون مؤسسات المجتمع المدني الخمس عشرة مؤسسة. ومعظمها اسم بلا مسمى . فالمؤسسات البحثية ليست كغيرها من المؤسسات التي يمكن تأسيسها باي كادر يملك ادنى مستوى ثقافي، فهي لا تقوم الا بالنخبة المتخصصة وما يحزن ان هذه المؤسسات مجهولة الدور ليس فقط لعامة الناس وانما يتعدى ذلك الى الكثير من النخب وحتى الى الوزارة المسؤولة عن مؤسسات المجتمع المدني . الاستحقاقات الموكلة ان المعاهد البحثية ومراكز الدراسات، قبل ان تكون انتاجاً ثقافياً ومعرفياً، هي منجز حضاري متميز إذ المعاهد البحثية هي المرآة التي تعكس اهتمام الامم والشعوب في حفظ تراثها ومنجزاتها المعرفية والحضارية، لان حفظ المنجز الفكري والسياسي والاجتماعي والعلمي لمجتمع ما، هو ممارسة واعية للتحولات والتطورات التي تحصل في المجتمع، وعملية هادفة لتأكيد ذاكرة المجتمع الحضارية.. فالمعاهد البحثية هي بمثابة المخزن والوعاء لذاكرة التاريخ الانساني في ابعاده المختلفة وعلى حسب اهتمام واختصاص مراكز الابحاث والدراسات والمراكز البحثية كحدث او منجز حضاري، هي وليد الواقع النهضوي، الذي يعيشه مجتمع ما.. اذ يسعى كل مجتمع في مسيرته النهضوية الى تأسيس الاطر والاوعية المنسجمة وظروفه التاريخية التي تحفظ منجزاته العلمية والمعرفية، وتسعى نحو تطويرها وتأكيدها في الوسط العام. واذا اردنا ان نلخص الاستحقاقات الموكلة لمراكز الابحاث في نقاط محددة فانها تمثل مجموع الاهداف التي ترفعها مراكز الابحاث على شتى انواعها وتقصدها بعملها، وبعد مضاربة وتلفيق بينها تتلخص بالاتي: 1. تطوير الحياة المعرفية في الوسط العام، فمراكز الابحاث والدراسات عادة ما تستقطب اصحاب الاهتمام والخبرة، لذلك فان لمؤسسات البحث الدور الاساسي في تطوير الحياة المعرفية والفكرية والعملية في الوسط العام، عن طريق انشطتها الثقافية ومنابرها الاعلامية المختلفة.. لذلك نجد في الكثير من الدول والبلدان، ان وراء تقدم وتطور الحياة الثقافية والعلمية، مؤسسات ومعاهد ومراكز للبحوث والدراسات في مختلف الحقول والاختصاصات.. حيث تقوم هذه المراكز برفد الساحة بالمعلومة الجديدة الموثوقة والتحليل العلمي الرصين وتبلور آفاق المستقبل وتوضح المدلهمات من القضايا والامور. 2. ان النظر الى السياسة بنظرة تحليلية، نراها تتلخص في عملية(اتخاذ قرارات وتنفيذها)، وهذه العملية تنضوي على عدة مراحل متدرجة وضرورية تشكل بمجملها الخطوات الضرورية لاثار السياسة على الارض. واكيد ان التصور الواضح للمشكلة او الحاجة او الموقف المراد اتخاذ القرار بشأنه، ونوع الوسائل المناسبة لتحقيقه والخيارات المتاحة في هذا المجال، والتنبؤات المستقبلية له وامور اخرى تمثل بمجموعها عماد عملية( اتخاذ القرار وتنفيذه) التي تساوي (العملية السياسية)، بحسب تحليلنا وهذه الامور جميعا تحتاج الى دراسة معمقة وواعية وعلى اسس علمية ممنهجة، وليس غير المراكز والمؤسسات البحثية وخصوصاً السياسية منها، اولى بهذه المهمة منها. فلا يمكن لاي مؤسسة اخرى ان تضطلع بهذا الدور غير المؤسسات البحثية ولذلك اصبحت مراكز الابحاث المشتغلة على الامور السياسية، جزءاً لا يتجزأ من العملية السياسية في معظم البلدان الديمقراطية. 3. اقامة جسور العلاقة والتواصل بين اطراف متعددة تمثل بمجملها اقطاب ادارة السياسة العامة وتنفيذها والتفاعل معها، فهي تتوسط العلاقة بين الحكومة والمؤسسات الاكاديمية، من خلال تحويل السياسة من عملية اجرائية وممارسة الى مادة علمية تنتظم في اطروحات ونظريات وافكار يمكن تداولها من قبل الاكاديميات في مجال البحث والدرس، وبذلك تخدم(المراكز) المؤسسة الاكاديمية في تحويل التجربة العملية الى مادة نظرية تدعم البناء العقلي والعلمي وتقدم له ارضية التطور، ومن جهة اخرى تمكن الحكومة من تلافي اخطائها او تحسين وسائلها، من خلال ما تتم ملاحظته عبر الرؤية الاكاديمية وما تتمخض عنه عملية التطوير الفكري والمناقشات النقدية لتلك الافكار. ولا تقف عند هذا الحد(اي المراكز البحثية) بل تجسر العلاقة بين الحكومة والمؤسسات الاعلامية، من خلال تحليل العملية السياسية وسبر اغوارها وتقديم هذا التحليل بين يدي الاعلام ليستطيع ان يوجه اسئلة عميقة ومكثفة تصيب كبد الحقائق وجوهر المجريات السياسية، ومن جهة اخرى تمكن(المراكز) الحكومة من بيان رسالتها عبر وسائل الاعلام من خلال تامين الندوات واللقاءات العامة للسياسيين التي يشرحون فيها وجهة نظرهم وحقيقة سياساتهم، امام الرأي العام. وتقوم ايضا باقامة الصلة الوثيقة بين الحكومة وعامة الشعب من خلال تفسير مجريات السياسة وخطواتها المعقدة التي قد يصعب على الشعب ادراك مراميها والمصالح المستبطنة فيها. 4. ان تطور الدولة الذي انتهى الى ما يسمى بالدولة الحديثة، افرز جملة كبيرة من الاستحقاقات الضرورية التي لا يمكن اداؤها عبر (حكام ومسؤولين وموظفين) ذوي كفاءة محدودة، فاصبح من الضروري ان يتم بناء الجميع مهنيا بما يتناسب والدور الذي يقومون به وخصوصا اولئك الذين تقع عليهم مسؤولية اعداد القرارات الكبرى وتنفيذها. ولاشك في ان هذا البناء يحتاج الى المعلومات المتخصصة المطروحة باسلوب يسهل وعيها وادراكها وتحويلها الى واقع عملي من خلال الممارسة، فضلا عن عملية التدريب المباشر. وهنا تشخص مراكز الابحاث كملب كفوء يستطيع تقديم المعلومات التأهيلية الضرورية، فضلا عن قدرتها على اقامة الدورات العامة والخاصة التي من شأنها ترقية وتطوير الجهاز الحكومي بكل سلطاته الثلاث. 5. توطيد اواصر العلاقة والتفاعل بين الثقافات والحضارات من خلال توفير فرصة تبادل المعلومات والافكار بين المراكز في البلدان المختلفة، وكذلك تهيئة الاجواء لاعلام كل ثقافة وحضارة ان يتحدثوا بمضمون ثقافتهم وحضارتهم من خلال المؤتمرات الدولية والمحاضرات التي تعد لهذا الغرض. 6. اشاعة روح البحث العلمي والتعامل مع القضايا بموضوعية وتعميم ثقافة البحث والتحري والاستدلال التي تقف بالضد من ثقافة التسطيح والخرافة والاحكام العشوائية، ورعاية المبدعين على وجه الخصوص وتوفير الفرصة المناسبة للراغبين في البحث والكتابة والتأليف وابداء الرأي، واقامة جسور التواصل بينهم وبين الجمهور. كما يمكن لمراكز الابحاث ان توفر فرصة مناسبة لاولئك الذين يريدون البقاء قريبين من المجريات السياسية وفاعلين فيها مع خروجهم من حيز المسؤوليات التنفيذية المباشرة من خلال تداول السلطة او التقاعد او اي اسباب اخرى، بحيث يمكنهم البحث والتحليل والتقييم وتقديم المشورة عبر ما يملكونه من خبرات واسعة. وهذا ما نراه جلياً في اكثر من بلد متقدم، حيث يعمل وزراء ومسؤولون كبار سابقون في الدولة في مراكز ابحاث ودراسات مهمة. واقع مراكز الابحاث في العراق ومشكلاتها ان كل تلك المؤشرات تدلل بقوة على الواقع المزري الذي تعيشه هذه المؤسسات. فالقليل من الناس يعلم بالضبط ماذا تعني كلمة(مراكز ابحاث) وكثيرا ما يلتبس الامر لدى السامعين بانها مؤسسات تدريسية تشابه الكليات والمعاهد. وهذا القصور في الفهم يمكن تلمسه بوضوح حتى داخل الجامعات من خلال الكثير من الطلاب الذين لا يعون من الجامعة الا مكاناً مناسبا لقضاء الوقت مع الاصدقاء والصديقات، وما اكثر هؤلاء. وتتعاظم المحنة في عدم الوعي وتصل الى وزارة الدولة لشؤون مؤسسات المجتمع المدني بحيث تقيس مراكز الابحاث مع غيرها من المنظمات والجمعيات التي تعمل على قضايا من السهل جمع اعداد غفيرة من الناس لممارستها بخلاف المراكز البحثية وخصوصاً العاملة على اختصاصات مهمة مثل السياسة الدولية والقضايا الاستراتيجية التي يشح عدد الاشخاص الاكفاء الذين يمكنهم تقديم الخدمة في مثل هذه الموضوعات. اما في اطار الحكومة، فلا ارى الى ساعة كتابة هذه الاوراق توجهاً حقيقياً نحو هذه المؤسسات او التشجيع على تاسيسها او تقويم المؤسسة منها، وحتى المراكز الحكومية ما زالت في الاطار الشكلي وتمثل نافذة يمكن ان تستوعب مجموعة من الاشخاص بعنوانها (مكسب رزق)، وتبقى النتاجات في اطار الروتين وبدائرتها الضيقة. وللتركيز اكثر على هذا الموضوع ندرج ادناه ابرز المشكلات التي تعيق عمل مؤسسات البحث وتحجم من دورها وهي الآتي: 1- الافتقار الى مصادر التمويل المستقلة: لاشك ان مراكز الابحاث لا يمكنها الانطلاق قبل ان تكمل الادوات الاساسية لعملها، بدءاً من البناية المناسبة والاثاث الضروري والى المكتبة الثرية التي تمثل العمود الفقري لمسألة البحث. وفي الوقت الحاضر لا غنى عن شبكة الانترنت واجهزة الحاسوب. وفي نفس الاتجاه ينبغي توفر ميزانية مستقرة لرواتب مجموعة من الموظفين الدائميين، فضلا عن المبالغ التي تدفع الى الباحثين كدعم لانجاز بحوثهم او كمكافآت عليها. اما مسألة تظهير منتجاتها عبر مجلة دورية او جريدة فضلا عن الكتب والنشرات والاقراص المدمجة فهي من الامور المهمة وتمثل المؤتمرات والحلقات النقاشية والجلسات الدورية احدى الادوات المهمة ضمن عمل مراكز الابحاث. 2. ضعف مشاركة الباحثين وخصوصاً اساتذة الجامعات، حيث يطغى على الاغلب منهم السلوك الروتيني والاكتفاء بالمحاضرات الرسمية التي تلقى في الكلية، ولا ينجز من الابحاث الا ما يكون مطلوباً لاغراض الراتب او العلاوة او الترقية العلمية. ولذلك يحرصون على نشر ابحاثهم في مجلات معتمدة من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وكل هذه المجلات والاصدارات محدودة التداول، وفي الغالب تكتب للرفوف فقط، ولاجل ان يستعملها الاساتذة في نشر العدد الضروري من الابحاث المطلوبة لترقيتهم. ان الجامعة في العراق، ما زالت تعيش محدودية الدور، وروتينية الاجراءات، ولم تأخذ دورها المناسب في البناء الحضاري، اضافة الى ضعف الاهتمام بالدراسات الانسانية وتقدير مكانتها والاهتمام بخريجيها وما زال الكثير من الفروع العلمية الانسانية، كالاجتماع والسياسة ، لم يفتح منها الا واحد او اثنان في عموم العراق. 3. الافتقار الى الروح الجماعية في البحث، فغالبا ما ترتبط المؤسسة البحثية بشخص (الممول لها)، او الجهة الراعية لها، وتكون منغلقة عليها. ان العمل البحثي يمتاز بانه ينمو ويتطور من خلال العمل الجماعي والكثير من الاشكاليات المعرفية والاحتياجات العلمية، لا يسدها شخص واحد لوحده مهما كانت قدراته. من هنا يقتضي الامر وجود فريق متقارب بالكفاءة ويحمل الاستعداد النفسي والعملي للتواصل في مشروع جماعي، بعيدا عن الانانية والبحث عن الالقاب الفارغة. ولعل روح الحذر وخطورة التجمع التي كانت واحدة من اهم سمات المرحلة المظلمة بسبب الخوف من مراقبة الاجهزة الامنية وقمع السلطة، هي التي ركزت هذه السمة وجعلت العمل الجماعي نادراً في اوساطنا بخلاف ما هو شائع في اوروبا واميركا. 4. مشكلة اللاموضوعية في البحث: ان قيمة النتائج التي تطرحها مراكز الابحاث تكمن في مهنيتها وروحها المحايدة في فرض دورها. ولكن هذه المحايدة لا تسلم وتأتي مشوهة ومتأثرة ما يجعل نتائجها غير صادقة او لا يمكن الاعتماد عليها اذا جاءت نتيجة لاحد منتجات اللاموضوعية. وابرز ما يدعم اللاموضوعية ويؤسس لها الاتي:ـ أـ الضغط الايدلوجي الذي يمثل موجهاً لعقلية الباحث من خلال ما يؤمن به من مرتكزات. ان عملية الانتماء هي حالة صحية ومقبولة ولكنها ترفض اذا تحولت الى ضاغط دوغمائي يحجب الشخص عن رؤية حقيقة الوقائع ويفسرها بما تمليه عليه عقيدته، دون الاكتراث برؤى الآخرين. ولعل هذا الموضوع ظاهر جدا في الابحاث الانسانية وخصوصاً ما يتعلق بالسياسة منها. ب ـ قوة المقدس الديني: لاشك ان مجتمعنا من المجتمعات التي تحترم الدين ويشكل العمود الفقري في حياتها، ويمثل الموجه الاعلى لتصرفاتها. وهذه القوة للمقدس الديني بحسب الرؤية الشعبية تعيق حركة البحث في بعض الاحيان وتجعل الباحث يجانب الصواب خوفاً من الاصطدام بما يثير حفيظة الجمهور ويؤلبهم عليه (!!). ج. الروح القبلية والعشائرية الطاغية: وهذه تضغط على رؤية الباحث وتحرف نتائجه الى الجهة التي تتواءم مع انتماءاته العشائرية. او يمثل الوجود القبلي المتزمت مصدراً للتهديد عند الاقتراب من اية قضية تدخل في دائرة المسلمات ضمن الذهنية القبلية والعشائرية. د. الارتكاز النفسي المستقر لرهبة السلطة: ان السنين العجاف التي اصطبغت بدماء العلماء والمناضلين وتوجها نشاط السوط والسيف للزمرة الصدامية الظالمة، طبعت تلك السنين في النفوس الحذر والريبة من التصريح بالآراء التي تنقد السلطة او تعطي نتائج على غير هو الحكومة. وهذه الخشية قد يكون لا مبرر لها في الوقت الحاضر في بعض الاحيان، ولكن الارتكاز النفسي السابق له مأخذه الكبير في نفوس الكثير من الباحثين والمحللين وقد لمست ذلك عملياً. 5. فقدان التنسيق بين مراكز الابحاث نفسها والمؤسسات الاكاديمية الاخرى. ويرجع ذلك اما لصعوبة وسائل التواصل والاخطار التي تحفها او التكاليف المترتبة عليها، او عدم فاعلية ما هو متاح منها. وبخصوص الاكاديميات الرسمية، فأن الروتين القاتل والقيود المفروضة عليها تجعل من التنسيق والعمل معها اقرب الى المستحيل. وتبقى دائرة التنسيق والتواصل محصورة مع الاشخاص دون المؤسسات. 6. انعدام قاعدة البيانات اللازمة لاجراء الابحاث: ان المشاكل السياسية والاقتصادية اليوم لا يكفيها ان تجلس وتتأمل وان تطالع بعض الزهور ولكنها تحتاج الى الكثير من البيانات والاحصاءات المتوفرة والموجودة رهن اشارة الباحث. واكيد فان ما موجود من احصاءات وبيانات محدود جداً في متناول بعض الجهات الرسمية وفي الغالب لا يسمح بالاطلاع عليها او من الصعب الوصول اليها. 7. الذهنية الشعبية غير المتعاونة مع الباحث والتي لا تثق بأسئلته وتنظر اليها بتوجس وتعتبر ما تدلي به من تصريحات او معلومات يشكل نقطة خطر عليها في المستقبل. ويظهر ذلك جلياً في مسألة الاستبيانات وخصوصاً ما يسأل عن مسائل مهمة ومحل اختلاف. فالاجابات لا تكون دقيقة ويمتنع الكثير عن التعاون مع مثل هذه الامور. وفي احسن الاحوال ينظر لها البعض بالسخرية والاستهزاء وعدم الجدوى. 8. نمط التعليم السائد في جميع المدارس والاكاديميات يتجه الى الطابع التلقيني والاملاء السلبي بحيث يحشو المدرس رأس الطالب بالمعلومات فقط، دون ان يحاول بناء عقلية نقدية فيه، او يقوي روح التساؤل لديه، الامر الذي نتج عنه تخلف روح البحث والتأمل الاغلب الاعم من الطلاب وحتى مع الحاجة للبحث لضرورة تكون المواصلة متعثرة او يضغط الطالب على نفسه قهراً لإكمال المطلوب فقط. وهذه المشكلة عميقة ويمثل هذا المؤشر مجرد جانب من جوانبها المتعددة التي تلقي بظلالها على عموم الحياة العلمية والفكرية. 9. الافتقار الى المكتبات التي تقدم ما يحتاجه الباحث خصوصاً في ما يتعلق بدراسة الامور المعاصرة والقضايا السياسية منها على وجه الخصوص. فالعراق عاش حصاراً فكرياً وثقافياًُ منذ اكثر من ثلاثين سنة، ولم تشاهد اسواق المكتبات (في العراق) نتاج الثمانينيات العالمي، فضلا عن التسعينيات وما بعدها. ومع توفر القليل منه فهو بأسعار ملتهبة لا يقوى عليه الا الاثرياء او اصحاب الحاجة الماسة. فمعاناة الحصول على الكتاب واحدة من اهم العقبات في حياة الباحثين. فطلبة الدراسات العليا يعانون الامرين في الحصول على المصادر المناسبة لموضوعاتهم ولعل البعض يعدل عن البحث في موضوعات حيوية مهمة لعلمه بندرة المصادر عنها او انعدامها. ولي تجربة مريرة في مجال اعارة الكتب والاستيلاء عليها من قبل الآخرين، لعدم توفر الكتاب وحرص المستعير على الاستيلاء عليه ولو غصباً 10 ـ شحة العقليات الكفوءة التي تستطيع قيادة مؤسسات البحث واستقطاب الباحثين الجيدين وايجاد الفضاءات والموضوعات الحساسة والضرورية في حياة البلد والمجتمع والاشتغال عليها. فقد تكون الشخصية كفوءة في مسائل الادارة البحتة ولكنها لا تدرك او محدودة الإلمام بالإشكاليات المعرفية والاستحقاقات البحثية، مما يقف في طريق تقديرها الصحيح لاهمية الموضوعات التي ينبغي العمل عليها، او توجيه مؤسسة البحث باتجاه موضوعات ثانوية. وهكذا عندما يتوفر جانب الالمام العلمي مع الضعف الاداري، ينعكس بوضوح على اداء المؤسسة من خلال الارتباك في العمل وضعف التنظيم وقلة النتائج. 11 ـ قلة او انعدام النوافذ التي تستطيع مراكز الابحاث تجسيد نتاجاتها عبرها الى حقائق عملية. فلا توجد شركات كبيرة تتعامل مع مراكز الابحاث. وبخصوص الحكومة ما زالت هي في واد والمؤسسات في واد آخر. وقد جربت عملياً تقديم بعض الدراسات والاقتراحات ولكنها والله العالم ذهبت الى الرف في احسن الاحوال. إننا عمدنا في هذا التنقيط الى الاقتصار على العقبات والمشاكل المشتركة لدى كل مراكز الابحاث وحتى الحكومية منها. وهذه التشخيصات جاءت نتيجة السؤال المباشر والمتابعة لاحوال تلك المؤسسات مع ما نعيش من واقع في مؤسساتنا المتواضعة. ويبقى لبعض المؤسسات مشاكل خاصة في حدودها ولكنها لا ترقى الى تأثير الامور التي اشرنا اليها اعلاه، ولذلك آثرنا عدم التطرق لها. مما تقدم نؤشر الى الحلول المقترحة التي نعتقد انها تستطيع بها مراكزنا البحثية ان تؤدي الاستحقاقات الضرورية: 1. تأمين الاحتياجات الضرورية لمراكز الابحاث من خلال (منح حكومية) تقدم على اثر تطبيق شروط مناسبة يمكنها توليد الاعتقاد الكافي بجدوى المؤسسة. ويمكن ان تكون تلك المنح عبر ميزانية وزارة التخطيط او يتم دعم كل توجه بحثي من خلال الوزارة التي تشارك في الاتجاه او عبر الجهة المسؤولة عن مؤسسات المجتمع المدني. والمهم ايجاد ميزانية مستقرة يتسنى للمؤسسات البحثية ان تؤدي دورها من خلالها. وقد يتم ذلك من خلال تشجيع دافعي الضرائب ، بدفعها الى تلك المراكز مقابل الإعفاء منها امام مؤسسة جباية الضرائب . ويدخل في هذه النقطة ضرورة ايجاد قاعة او اكثر في كل محافظة تحتوي على مساحة مناسبة ومستلزمات تهيئ لعقد الندوات والمؤتمرات والحلقات النقاشية التي تعتبر اهم المفردات في اعمال مراكز الابحاث. (2) التنسيق من خلال وزارة الخارجية وسفارات العراق مع مراكز الابحاث المتقدمة في العالم والجامعات وربط مراكزنا البحثية وتشجيع الطرفين على إقامة اعمال مشتركة وتقديم التسهيلات في هذا الاتجاه . وكذلك التسهيل في زيارة الكوادر البحثية العراقية والمشرفين على مراكز الابحاث الى دول العالم المتقدمة في هذا المجال لزيادة الخبرة والاطلاع وإقامة وشائج العلاقات المهمة والحصول على فرص مناسبة للدعم المالي والمعنوي. (3) تشجيع الدولة لإقامة معارض الكتاب ودعم الكتب وخصوصا للمؤسسات البحثية والجامعات والباحثين المتخصصين ليتسنى لهم اقتناء ما يحتاجونه من الكتب والنشرات .وتشجيع المؤسسات البحثية في العالم (من خلال الملحقيات الثقافية في الخارج ) لإيصال منتجاتنا وخصوصا الدوريات المكتوبة باللغة العربية والبحوث التي تعالج قضايا تتصل بالعراق وما يدور فيه او المنطقة بعمومها . (4) العمل الجاد والمكثف لإصلاح التعليم في مؤسسات العراق وعلى وجه الخصوص الجامعات، وتأهيل التدريسيين على الطرق الحديثة للتدريس التي تجعل الطالب محور الدرس وتشجيعه على المشاركة والتفكير وكذلك التخفيف من غلواء الروتين وفتح باب الجامعة بشكل منظم لتتلاقى مع الجهد العلمي والبحثي المتحرك خارج اسوارها، من اجل توليد ديناميكية علمية تثري الواقع وتدفعه نحو التقدم.وكذلك التركيز على مسألة البحث والنظر اليها بجدية أثناء الدراسة وتشجيع الطاقات المبدعة وإعطائهم الامتيازات التي تدفع الاخرين للمنافسة. وفي خطوة يمكن ان تمثل زخما قويا لمراكز الابحاث، وهي حث الاساتذة الجامعيين للمشاركة بمراكز الابحاث والتفاعل معها واعتبار هذا النشاط جزءا من مقومات ترقيتهم وتأهيلهم الى المراتب العلمية العليا ، شريطة ان يكون ذلك موثق بأسلوب علمي يحقق الاطمئنان اليه. (5) إن تحويل الحكومة من معرضة عن آراء الاخرين ومؤسسات البحث ومستبدة برأيها لا يتم من خلال إبداء النصائح والارشادات ، ولكنه يأتي عبر اختيار الشعب لممثلين واعين يفهمون معنى المسؤولية ويحترمون معنى العلم ونتائجه ويعتمدون التخطيط والعلمية بدل العشوائية والتخرص ، وهذا الامر من شأنه ان يكفل وصول حكومة (حكيمة ) ، تعتمد التخطيط والعلمية والمشورة في رأيها وهذا يؤدي بشكل تلقائي الى فسح المجال امام المؤسسات البحثية ان تقوم بدورها المناسب، وتقديم المشورة والرأي في كل ما تراه مناسبا. (6) تشجيع أسلوب العمل الجماعي في المدارس والكليات، مما يحوله الى ثقافة عامة ومنهج رئيسي في الحياة ، وكذلك اعتماده من قبل المؤسسات البحثية كأسلوب امثل في تحقيق النتائج ، الامر الذي يولد روح المشاركة وحب الجهد الجماعي لدى عموم الباحثين ، ويعكس بنتائجه الطيبة على النشاط البحثي في مختلف الاختصاصات. (7) تشجيع النقد البناء واحترام حرية إبداء الرأي ، ما زالت لا تتضمن التعدي على الاخرين والانتقاص منهم . والتخفيف من غلواء الخطوط الحمراء التي يتم وضعها في المكان المناسب وغير المناسب ، وذلك من خلال إعادة النظر في الكثير من القضايا التي نؤشرها بأنها (غير قابلة للمناقشة والنقد) والتأكيد من هذا الحكم وموضوعيته. ان بناء ( العقل المتسائل) الذي يطلب الحجة والبرهان، ولا يقتنع بالخرافة والتضليل، هو اهم الركائز التي تبنى عليها الحضارة الزاخرة. وهي عملية تربوية مركبة يشترك فيها مختلف قطاعات الحياة، وتظهر ثمارها في كل مناحي الواقع. (8) قيام الوسائل الاعلامية بدور التثقيف والتفريق بأهمية المؤسسات البحثية، وماهو تأثيرها على السياسة العامة للبلد، ومعطيات هذا التأثير على الحياة العامة؟ ومن جهة اخرى فسح المجال امام تلك المؤسسات للتعريف بنفسها، وعرض نتاجاتها وما تقوم به من نشاطات عبر وسائل (الاعلام) المختلفة. (9) إطلاق مشروع البنك المركزي للمعلومات ويتم تحقيقه عبر مختصين يقومون على جمع المعلومات الصحيحة، وحجب ما يضر بالسيادة الوطنية والأمن القومي للبلد منها ، وتهيئتها في موقع كبير يمكن الافادة منه من قبل الجميع، بالاضافة الى فروع اخرى (للبنك) تقوم بنفس الغرض. *المركز العراقي للبحوث والدراسات الانسانية والستراتيجية وتطوير العمل الاجتماعي وكل ذلك بحسب رأي نعمة العبادي في المصدر المذكور. المصدر: جريدة الصباح- 26-3-2006
|