العراق بين خياري "الديمقراطية" و "الحرب الأهلية"

 

 

 

بعد سلسلة الأخطاء الاستراتيجية والتكتيكية التي وقعت فيها إدارة الرئيس بوش منذ غزو العراق قبل ثلاثة أعوام، تواجه واشنطن اليوم معضلة حقيقية.

فقد تحول العراق إلى مأزق أمريكي بامتياز يؤدي الخروج المبكر منه إلى خطر اندلاع حرب أهلية، ويؤدي الاستمرار فيه إلى استحالة بزوغ دولة عراقية ديمقراطية تنعم بالاستقرار. 

وفيما لا زال المسئولون الأمريكيون يروجون لحلم تحويل العراق إلى نموذج للتحول الديمقراطي تحتذيه دول الشرق الأوسط الأخرى، اعترف وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفلد أمام مجلس الشيوخ الأمريكي بأن أعمال العنف الطائفي قد انتقلت من سئ إلى أسوأ وأنه لو اندلعت حرب أهلية في العراق فإن قوات الأمن العراقية هي التي ستتعامل معها بقدر استطاعتها، ولكنه لم يشرح كيف ستتعامل قوات الاحتلال الأمريكي مع هذا السيناريو في حال تغلب أطراف الحرب الأهلية في العراق على قوات الأمن العراقية.

وسارع السناتور الديمقراطي البارز إدوارد كينيدي إلى إصدار بيان طالب فيه إدارة الرئيس بوش بتقديم شرح تفصيلي كامل لما ستفعله الولايات المتحدة إذا انزلق العراق إلى حرب أهلية، وقال :"من الواضح أنه ليس من الواقعية في شيئ أن يتقرر الاعتماد على قوات الأمن العراقية التي لا تستطيع أن تقاتل بمفردها لمواجهة أي حرب أهلية قد تنشب في العراق، وبالتالي فإن القوات الأمريكية ستجد نفسها متورطة في تلك الحرب في نهاية المطاف".

كما أقر الجنرال جون أبي زيد قائد القيادة الأمريكية الوسطى المشرف على عمليات القوات الأمريكية في العراق بأن الوضع في البلاد يتجه إلى التحول من التمرد إلى العنف الطائفي، وهو ما يراه المحللون إشارة إلى أن الحرب الأهلية قد بدأت بالفعل في العراق.

2006 عام الحسم في العراق

وفي هذه الأجواء الحرجة أصدر مركز صابان لسياسات الشرق الأوسط التابع لمعهد بروكنجز في واشنطن دراسة جديدة بعنوان: "نحو استراتيجية جديدة لأمريكا في العراق"، أشرف على إعدادها كينيث بولاك المدير السابق لشئون الشرق الأدنى بمجلس الأمن القومي الأمريكي، ومحلل شئون العراق وإيران بوكالة المخابرات الأمريكية سابقا.

ويقول كينيث بولاك إن الدراسة التي شاركت فيها نخبة من الخبراء والمتخصصين - لهم خبرات شخصية مع الوضع في العراق من أمثال البروفيسور نوح فيلدمان أستاذ القانون بجامعة نيويورك الذي طلبت منه سلطة الحكم الأمريكية المؤقتة في العراق صياغة مشروع للدستور العراقي الجديد - استهدفت وضع استراتيجية بديلة وشاملة للتعامل مع الوضع في العراق وما الذي يجب أن يتغير وكيف، مع التركيز على أولوية إعادة بناء العراق.

وترى الدراسة أن الخطأ الفادح الذي ارتكبته إدارة الرئيس بوش في العراق بتسريح الجيش العراقي وقوات الأمن التابعة لنظام صدام حسين خلق فراغا أمنيا لم تستطع القوات الأمريكية سده منذ أبريل عام 2003 مما أسفر عن مشكلتين:

أولا: حركة التمرد المسلح المتمركزة بشكل أساسي في غرب العراق.

ثانيا: انهيار مؤسسات الدولة العراقية، والفشل في إعادة بنائها بالاستعانة بقيادات عسكرية وسياسية جديدة.

وأشارت الدراسة إلى أن ذلك السيناريو تسبب في أنه أصبح يتعين على الولايات المتحدة الاستمرار لسنوات في مساعدة العراقيين على بناء مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية والعسكرية الجديدة، ومواصلة الوجود العسكري الأجنبي على التراب العراقي لتجنب وقوع حرب أهلية وكذلك مواصلة تقديم المساعدات الاقتصادية.

ونبهت إلى ان الوقت ليس في صالح الولايات المتحدة حيث أن شعور العراقيين بالإحباط بسبب القصور في عمليات إعادة بناء العراق أدى إلى تآكل التأييد الشعبي لمشروع الدولة الجديدة في العراق وانضمام أعداد متزايدة من العراقيين إلى حركة التمرد التي توفر لهم مساعدات عاجلة.

ولذلك تنصح الدراسة إدارة الرئيس بوش بأن تعتبر العام الحالي "عام الحسم" في العراق، فإما أن تتمكن حكومة عراقية جديدة بمساعدة من الولايات المتحدة من معالجة المشاكل الرئيسية التي تواجه المواطنين العراقيين بشكل مرض أو ستواجه الولايات المتحدة مشكلة خطيرة تتمثل في وقوع أعداد ضخمة من العراقيين في أحضان الميليشيات المسلحة وهو أمر سيقود حتما إلى اندلاع حرب أهلية شاملة في العراق.

لذلك توصي الدراسة بأنه يتعين على الولايات المتحدة والحكومة العراقية الجديدة عندما تتشكل الشروع فورا في اتخاذ قدر من الخطوات يكفل ظهور نتائج ايجابية وسريعة لاستعادة ثقة معظم العراقيين.

منح الأولوية لتوفيرالأمن والتنمية

تنصح الدراسة بأن تتحول الأولوية القصوى في استراتيجية أمريكا الجديدة في العراق إلى توفير الأمن للمواطنين العراقيين بدلا من مطاردة المتمردين، وبأن يتم توفير المستوى اللازم من الأمن لاستئناف عمليات إعادة الإعمار، ويقتضي هذا انتهاج الأسلوب التقليدي المتعارف عليه في مواجهة حركات التمرد والذي يتطلب توفير عشرين جنديا لكل ألف نسمة من السكان.

ويعني هذا في حالة العراق توفير ما لايقل عن أربعمائة وخمسين ألف جندي وهو عدد يتجاوز بكثير قدرات وإمكانيات الولايات المتحدة والعراق، لذلك قدم واضعو الدراسة حلا بديلا هو توفير هذه النسبة المرتفعة من قوات الأمن بالنسبة لعدد السكان فقط في المناطق الحيوية والتي يتوفر فيها أكبر قدر من المساندة الشعبية لجهود الإعمار فيها.

وأكدت دراسة مركز صبان لسياسات الشرق الأوسط أنه لو أسفرت الجهود عن تحويل تلك المناطق إلى نماذج ناجحة وملاذات آمنة لإعادة التعمير وظهور تدفق واضح للموارد الاقتصادية إليها فسرعان ما ستتحول إلى أمثلة حية لقدرة الحكومة العراقية على تقديم بديل أفضل من الانتماء إلى الميليشيات العسكرية أو المتمردين. غير أن التقرير نبه إلى أن ذلك يقتضي التركيز على الأمن والتنمية، وإحراز تقدم سياسي واقتصادي جوهري يمكن أن يشعر به المواطن العراقي على مستوى مجتمعه المحلي.

وتعتقد الدراسة أن خلق هذه المجتمعات الآمنة في مناطق مختلفة من العراق سيجعل من الممكن أن تسرع الولايات المتحدة من خطى خدمات تدريب قوات الأمن العراقية في مناخ آمن فيما ستتوفر لوحدات هذه القوات مشاعر الانتماء والثقة بين أفرادها وقياداتها، إلا أنها اشترطت توفر أربعة شروط لنجاح استراتيجية مواجهة التمرد في العراق:

أولا: إعادة ترتيب الأولويات بحيث تصبح الأولوية الأولى توفير الحماية والأمن للمواطنين العراقيين والبنية المدنية الأساسية، تليها أولوية تدريب القوات العراقية، ثم أولوية مكافحة التمرد.

ثانيا: التحول في التركيز في العمليات العسكرية من الهجوم إلى الدفاع في شكل هجمات مضادة أو لحماية هدف هام.

ثالثا: التركيز على تقليص نفوذ الميليشيات المسلحة وعصابات الجريمة المنظمة في وسط وجنوب العراق باعتبارها عائقا رئيسيا أمام جهود التنمية الاقتصادية وفتيلا لإشعال حرب أهلية.

رابعا: تشكيل قيادة موحدة تتكامل فيها تماما العمليات العسكرية مع العمليات المدنية في شكل لجان عراقية أمريكية مشتركة يضمها تسلسل قيادي على مستوى البلاد.

نحو نظام سياسي جديد

وتنصح الدراسة إدارة الرئيس بوش بالعمل على تطوير وبناء نظام سياسي جديد في العراق يحظى بتأييد أبناء الشعب العراقي من خلال إقناعهم بوجود سبل فعالة وسلمية للتغلب على مشاكلهم وتوفير الأمن وتكافؤ الفرص.

وترى أن مدى شرعية الحكومة العراقية الجديدة سيتوقف على ما إذا كان بوسعها تحسين أحوال معيشة الشعب العراقي من خلال توفير فرص العمل وضمان توفر التيار الكهربائي بدون انقطاع وكذلك توفير المياه النقية والوقود وتوفير القدر الكافي من الأمن للحصول على تلك الضروريات.

غير أن الدراسة نبهت كذلك إلى أن اقتسام السلطة وخلق مناخ موات للمصالحة الوطنية يعد شرطا أساسيا لتحقيق اي تقدم في العراق، ولذلك أوصت بضرورة العمل على إشراك السنة العراقيين في عملية إعادة بناء النظام السياسي مقابل تقديمهم لبعض التنازلات وخاصة فيما يتعلق بتحديد نصيبهم من الموارد العراقية وفقا لنسبتهم في المجتمع العراقي، على أن يقدم كل من الأكراد والشيعة تنازلات مماثلة تشمل إعادة النظر في برنامج اجتثاث الأعضاء السابقين في حزب البعث، والموافقة على إدماج السنة في القوات المسلحة العراقية وفي المؤسسات الحكومية، والشروع في عملية مصالحة وطنية حقيقية.

كما أوصت الدراسة بضرورة أن تعمل الإدارة الأمريكية على الحيلولة دون تطلع زعماء الشيعة في جنوب العراق إلى الحصول على حكم ذاتي يفصل جنوب العراق على غرار ما حدث مع الأكراد العراقيين في الشمال باعتبار أن من شأن ذلك أن يدفع بالسنة العراقيين إلى إطلاق شرارة الحرب الأهلية استنادا إلى تجريدهم من أي موارد بترولية.

وفي مواجهة الفساد والبيروقراطية التي تشل الوزارات العراقية، تقترح الدراسة أن تشرع الولايات المتحدة بالتعاون مع الحكومة العراقية الجديدة في الانتقال بالبلاد من نظام حكم مركزي إلى نظام فيدرالي تحتفظ فيه الحكومة المركزية بمهام القوات المسلحة والسياسة الخارجية والنقدية والمالية وقطاع البترول وتنظيم وسائل الإعلام بينما تنتقل معظم السلطات الأخرى إلى الحكم المحلي، على أن يتم تسليم المساعدات الخارجية وعائدات البترول مباشرة إلى سلطات الحكم المحلي وأن يتم نقل الإشراف على قوات الشرطة من وزارة الداخلية إلى الحكومات المحلية.

وأسهبت الدراسة في شرح أربعة متطلبات أخرى لازمة لبناء نظام سياسي جديد في العراق:

أولا : الأخذ بنظام جديد لتوزيع عائدات البترول العراقي على تمويل نفقات الأمن القومي والسياسة الخارجية والمالية والنقدية والوظائف الأخرى للحكومة الفدرالية، وتطوير مرافق البنية التحتية، وتوزيع أنصبة مباشرة على الحكومات المحلية بحسب نسبة عدد السكان وكذلك توزيع أنصبة مالية مباشرة من عائدات البترول العراقي على المواطنين العراقيين في شكل إيداعات شخصية لاستخدامها في التعليم أو الرعاية الصحية أو تخصيصها للتقاعد.

ثانيا: بناء قدرات الحكومة المركزية بعيدا عن الفساد الذي أعاق عمليات إعادة البناء، وإنشاء منظمات غير حكومية تقيم الأنظمة المالية المعمول بها، وإنشاء محكمة خاصة بقضايا الفساد، وتغيير مفهوم المواطن العراقي لما يعنيه الفساد من خلال وسائل الإعلام وبحيث يصبح قادرا على فضح الفساد.

ثالثا: إصلاح العملية السياسية من خلال تغيير نظام الانتخاب في العراق والأخذ بنظام التمثيل الجغرافي المباشر والذي يسمح بانتخاب مرشحين ينتمون إلى مختلف التوجهات والأعراق مما يكفل تشجيع التوصل إلى حلول وسط في مجلس النواب وإجبار المشرعين العراقيين على الاهتمام بمصالح الناخبين وليس بمصالح الحزب أو القائمة أو التكتل الانتخابي.

رابعا: زيادة حجم المساعدات الدولية للعراق وأن تحاول الولايات المتحدة إسناد جانب من عبء قيادة جهود إعادة بناء العراق إلى منظمة دولية مثل الأمم المتحدة بحيث يمكنها توفير الموارد والتخصصات اللازمة للجوانب المختلفة لعملية إعادة الإعمار.

التنمية الاقتصادية هي المحك

في ختام الدراسة أشار واضعوها إلى أن هناك تحديين أساسسين امام الولايات المتحدة والحكومة العراقية الجديدة فيما يتعلق بالاقتصاد:

أولا: الحاجة الملحة لإشعار المواطن العراقي بوجود منافع ملموسة خلال الشهور الستة القادمة وعلى مدار العام تجعله يدرك أن الحكومة الجديدة ستفي بالمزيد من احتياجاته وستكون مختلفة عما سبقها من حكومات.

ثانيا: الحاجة لمساعدة العراق على التعامل مع المشاكل الهيكلية في الاقتصاد بحيث يتمكن من توفير عائدات للشعب العراقي بدون الاعتماد على مساعدات خارجية ضخمة.

وأوصت الدراسة بالتركيز أولا على الجهود القصيرة المدى لتحسين الاقتصاد العراقي خاصة ما يعتبره العراقيون أولويات مثل تحسين فرص العمل من خلال توفير اعتمادات إضافية لقطاع البناء والمشروعات الأخرى كثيفة العمالة، وإحياء قطاع الزراعة واستغلال الخصوبة العالية للتربة العراقية وتنويع مصادر الدخل القومي، وتوفير الكهرباء والوقود وتنشيط قطاع البترول وتصديره لخلق المزيد من فرص العمل.

وفيما يتعلق بالجهود الطويلة المدى لتحسين التنمية الاقتصادية بالعراق أوصت الدراسة بأن تعمل الولايات المتحدة على ضمان الحفاظ على قدرة الاقتصاد العراقي على مواصلة النمو في الأمد البعيد وأن يتم استبدال الدعم الحكومي للسلع الأساسية والوقود بنظام كوبونات الغذاء لضمان وصول الدعم إلى مستحقيه من أبناء الطبقات محدودة الدخل.

وأشار التقرير إلى أن أهم عنصر يكفل استمرار ذلك النمو هو الارتقاء بالتعليم والابتعاد به عن التركيز على الحفظ والاستيعاب والانتقال به إلى طرق التعليم التفاعلى التي تشجع التفكير والبحث العلمي مع التنويع في التخصصات اللازمة لسوق العمل في العراق في المدى الطويل.

وذكرت دراسة مركز صبان لسياسات الشرق الأوسط التابع لمعهد بروكنجز في ديباجتها أنه سيترك للمؤرخين في المستقبل مهمة تحديد الأخطاء الأمريكية في العراق، إلا أنها قالت بالحرف الواحد: "إن إدارة الرئيس بوش ليس لديها استراتيجية قابلة للنجاح في العراق وأن السياسة الأمريكية غالبا ما تصب تركيزها على المشاكل التي لا تشكل صلب الموضوع وتطبق في مواجهتها الحلول الخاطئة."

و كل ذلك بحسب المصدر المذكور.

المصدر:swissinfo - 19-3-2006