حذارثـقـافـة السكين لحلّ النـزاع  ؟

 

المهندس فـؤاد الصـادق

 

 

طـوبـاويّ

وحتى النخاع منْ يتصوران العالم سوف يتخلص يوماً من الخلاف الإختلاف وتماماً وبصورة شاملة و كاملة .

لماذا ؟

ببساطة وإيجاز أولاً : لأن الله صممَ الإنسانَ كذلك لأسباب ربما منها تمكين الإنسان من إعادة إنتاج نفسه وبالتالي لتمكين المجتمع فالمجتمعات من ذلك كطريق للتطوروالتقدم من جهة والإختبار والإمتحان من جهة ثانية ، وثانياً: لإختلاف البشر في العلم والجهل بالاشياء والوسائل و تباين مستويات الإدراك المعرفي من إنسان لأخر .

وثالثاً لأن المصالح هي جوهر الخلاف والمصالح كثيرة ومتقاطعة ومتشابكة ومتنامية وهي كذلك وكانت كذلك وسوف تبقى كذلك ، طبعاً هناك مصالح نبيلة واخرى غيرنبيلة ومعنوية واخرى مادية وسوية وغيرسوية كما ان هناك مصالح ظاهرة وأخرى خفية ومصالح فردية و أخرى إجتماعية و أخرى سياسية وإقتصادية و ... الخ .

أجل سيبقى الإختلاف وحتى لو أصبح المجتمع برمته وبقدرة القادرعزوجل الى مجتمع ملائكي مؤمن والسبب واضح فحتى في هذه الحالة الفرضية المواطن الملائكي المؤمن الأول يمكن أن يفكر بالصورة التالية :

من مصلحتي التفاني التقرب الى الربّ بدعم السلام الذي أمر به كأصل و بشكل جازم عبر الطرق المعينة تفصيلياً 1-2-3-4-5 و المحددة من قبل الرب ، بينما المواطن الملائكي المؤمن الثاني يمكن يمكن أن يفكر بالصورة التالية :

من مصلحتي التفاني في التقرب الى الربّ بدعم السلام الذي أمرالربّ به و بشكل جازم وعبر نفس الطرق المعينة تفصليا 1-2-3 فقط والمحددة من قبل الربّ لأن الربّ نفسه أجاز لأمثالي تجاوزالتكليفين المرتبطين بالطريقة الرابعة والخامسة لدعم السلام وإستناداً الى التخصيص الموردي من الربّ او لقاعدة الميسورالقطعية سنداً ودلالة وشمولاً لحالة مثل حالتي ، والمواطن الملائكي المؤمن الأول يوافق الثاني في كل ما قاله جملة وتفصيلاً و لا يظن الظنّ السوء بالأول ليحتمل اويفسرعدم قيامه بالخطوتين الرابعة و الخامسة بالتنصل اوالتبرير اوالتساهل اوالتهرب من الذي كلّف الربُّ به الثاني . لكن مع كلِّ هذه الفرضيات الخيالية البعيدة عن التحقق حتى في عالم الاحلام :

ما هي النتيجة ؟

في مجتمع ملائكي مؤمن نسمته فردان فقط هناك طريقان يتسمان بالصوابية و الشرعية والمشروعية الى السلام.

في مجتمع ملائكي مؤمن نسمته فردان فقط هناك إختلاف .

و قصة الحكمين المختلفين الصائبين الصادرين من سليمان و داود عليهما و على نبينا وأله الصلاة والسلام في موضوع واحد وزمان واحد معروفة و تؤكد ذلك كماهي في القرأن الكريم . فالإختلاف سيبقى ما بقي الدهر لأنّ أسبابه الكثيرة التي لم نشر الا الى بعضها باقية وغاية ما في الأمر إن شعبيته و درجته ومساحته و ألوانه يمكن أن تتأرجح بين الزيادة والنقصان من عصر الى أخرومن مجتمع الى غيره وعليه يجب ان نحلم و نعمل الى الحدِّ منه لكن لا الى الدرجة التي تتحول الحياة الى دولة عاصمتها اللون الواحد ومحافظاتها الروتين والرتابة والفتوروالكسل والتخلف والتأخرحيث تُعدم التعددية وتُشنق المنافسة وينحسر التقدم بل ينحصر في التقدم الى الوراء.

المهم الحيلولة دون تحول الخلاف الى التنازع والصراع والأزمات ونزيف الطاقات ، و لهذا نرى في الأية الكريمة قال عزوجل :

 (( ولا تنازعوا فـتـفـشـلوا و ... )) (1)

و لم يقل : و لا تختلفوا .

و ربما أمكن القول ان الخلاف ليس بمذموم وكذلك التنازع والتنازع المذموم تحديداًهوالتنازع الذي يتسبب في الفشل ، وخاصة إذا جمعنا بين الأية المتقدمة وحديثه صلى الله عليه و آله و سلم :

(( إختلاف أمتي رحمة )) (2)

وقوله تعالى :

(( لو شاء الله لجـعـلـكـم أمـة واحـدة ولـكـن ليـبـلـوكـم في مـا آتـاكـم )) (3)

فالهدف المحوري الثاني هو العمل المكثف للفصل النظري والعملي المعرفي بين الخلاف من جهة و الصراع والإحتراب و الإقتتال ، من جهة ثانية . و هذا بحاجة الى الثقافة الحاضنه لهذا الفصل بين الخلاف و المروجة له قولاً و عملاً و قدوة ، و أدبياتنا و قيمنا غنية و الى حد الثراء بمفرداتها و دعواتها و الى حدٍ يبعث المرء إذا تأمل و تدبرعلى تعريف الخلاف بانه رحلة ممتعة و مرحلة عابرة و فرصة ذهبية !!

و انه لابد من إستمرارية التواصل بلغت ما بلغت الخلافات ، كما لا مناص من الحوارحتى في جهنم !!

بعد الإشارة الى الهدفين الوقائيين المتقدمين لتطويق سلبيات الخلاف و الإختلاف نشيرالى الهدف الستراتيجي الثالث والذي يتناول :

 كيفية معالجة الخلاف بعد تحوله الى تنازع و قبل أن يتحول الى صراع و إحتراب ؟

و هذا الهدف ايضاً بحاجة الى جميع مستلزمات ثقافة الخلاف المتقدمة ، فالغائب والمغيَّب في ثقافة التنازع وثقافة الخلاف واحد وحال أدبياتنا وقيمنا واحد مع هذا الفارق انه بعد إنتقال الخلاف الى مرحلة التنازع يكون الأمر قد أقتـرب من الخط الأحمـر فلابد من مؤسسات وأفراد وجهات تعمل بجد وأمانة ومهنية ومسؤولية لمنع تحول التنازع الى صراع اوإقتتال، أي تسوية النزاعات وهذه المؤسسات موجودة و بوفرة في العالم و منها الحكومي و غير الحكومي ومنها الربحي و منها الخيري وهي متخصصة ومتدربة و بمهنية عالية للوساطة في حل النزاعات بل والأزمات لكن مثل هذه المؤسسات في بلادنا أما مفـقودة او نادرة جداً ، والمساهمة التي كانت تقوم به المساجد قديماً قد أنحسر الى حدٍ ما للقيود التي فرضت عليها ، وهكذا الأمر بالنسبة للدورالذي كانت تقوم به العشائر في هذا الإتجاه ، فهدموا ما كان قائماً بغير دليل و دون تقديم البديل فوقع ما وقع و غابت مفاهيمنا و انغلقنا على انفسنا حتى أصبحنا نفطرعلى الصراع وأخبارالعنف كل صباح ونتغدى على الصراع وأخبار العنف كل ظهرونتعشى على الصراع و أخبارالعنف كل مساء و ننام على الصراع وأخبار العنف كل ليلة لنحلم بالحرب وأهوالها و كأننا للصراع والعنف خلقنا .

نعم كل مجتمع ودائماً بحاجة الى ثقافة الخلاف وبمؤسساتها والى ثقافة النزاع وبمؤسساتها والى ثقافة الصراع وبمؤسساتها ، لكن دوامة العنف و لإرهاب المعاصرة يجب أن تدفعنا أكثر من قبل في هذا الإتجاه كدول وكمؤسسات ومجتمع مدني و مؤسسات خيرية لنسأل أنفسنا :

كم هوالمبلغ المرصود في ميزانية الدولة لمؤسسات ترشيد ثقافة الاختلاف او ثقافة النزاع او حلّ الأزمات ؟

وما هي عدد المؤسسات والجهات المسؤولة عن تلبية مثل هذه الحاجات الأساسية ؟

و ما هي نسبة مثل هذه المؤسسات في مؤسسات المجتمع المدني في بلداننا ؟

كيف كانت نسبة مساهمة المساجد و دورالعبادة في هذه الإتجاهات و الى اين تراجعت اليوم ؟

كم مؤسسة غيرربحية توجد في دولتنا مهمتها حل النزاعات والأزمات ؟

كم مؤسسة خيرية توجد في مدينتنا مهمتها ملئ هذه الفراغات المفزعة ؟

مازلت ابحث عن الأرقام والأحصاءات منذ زمن لكن المحصلة سلبية فلا ميزانية ولامؤسسات لإعـادة هيكلـة :

ثـقافة الإختلاف

ثـقافة النـزاع

ثـقافة الصـراع

فـي المجـتمـع كمـا لامؤسسات لـتسوية النـزاعـات والأزمـات والصـراعات سواء اكانت إجتماعية كالنزاعات الأسرية للزواج والطلاق ام إقتصادية كالنزاع على الأرباح في الشراكة والمضاربة ام طائفية كالنزاع بين بعض أتباع هذا المذهب وذاك المذهب ام عشائرية بين أل فلان وأل فلان ام سياسية بين المعارضة والدولة اوبين أجنحة المعارضة اوبين هذه الدولة وتلك الدولة والنتجة هو هذا الـواقـع المأساوي المتردي المتقهقر الذي قبلنا به وكأنـه هـو قـدرنـا !!

ومـع غياب تلك الثقافات والمؤسسات تتراكم الأحقـاد ويتـجـذرالعنف وتصبح ثـقـافـة السكين هـي الطـريق الوحـيـد والأمـثل لحلّ النـزا عات ... والقصة الكلاسيكية للبرتقالة معـروفة وتروى في معظم الندوات التي تعـقد للتدريب على المفاوضات وحلّ النـزاعات فكما تروى القصة :

 ( تنازعت الطفلتان على البرتقالة الأخيرة فى المنزل ثم ذهبتا إلى والدهما لحل النزاع . ولكن الوالد بدلاً من اللجوء الى السكين فورا لقطع البرتقالة الى نصفين كي يعطى كل منهما نصفاً ، عمل على فهم مصالح كل منهما فسأل كل منهما أولاً :

ماذا تريد أن تفعل بالبرتقالة .

قالت الأولى أنها جوعانة وتريد أن تأكل البرتقالة .

وقالت الثانية أنها تعجن كعكة وتريد أن تأخذ قشرالبرتقالة لتضعه فيها (وهي وجبة قشرالبرتقال جزء أساسي فيها) .

وعلى الفور جاء الحل المتكامل بتقشيرالبرتقالة وإعطاء قلبها للأخت التي تشعر بالجوع ، وإعطاء القشرة إلى من تصنع الكعكة ) (4)

غالبا الحل المتكامل المرضي للطرفين موجود وبسيط لكن مايحول بيننا وبينه التفكير الفوري وربما اللاشعوري بألية السكين لأننا نتصورهوالأقصر والأسرع والأقرب للمساواة في الربح والخسارة فلا نكلّف أنفسنا بإستكشاف مصالح طرفي النزاع لفهمها وتفهمها فالتجاوب والتفاعل بإيجابية وواقعية معها لنبقى مع القصة :

ماذا كانت النتيجة لو أن اخذ الوالد السكين فورا وقسم البرتقالة الى نصفين فأعطى كل منهما نصفاً وهو أقرب للمساواة والحيادية  ؟

ربما الطفلة الجائعة لم تشبع بالنصف وتتأثر سلبا من أختها ووالدها وتحرم أختها من قشر النصف الذي دفع اليها فيذهب هدرا وهكذا الطفلة الثانية فهي لم تحصل على القشرالكافي لوجبتها وتتأثر سلبا من أختها ووالدها فتحرم أختها من قلب النصف الذي دفع اليها فيذهب هدرا وبذلك يكون الحل قد زرع الخلاف بين الأختين وتسبب في التبذير وعدم التلبية الكاملة لحاجة ومصلحة كل من الطفلتين فـحذارثـقـافـة السكين لحلّ النـزاع .

............................................

المـصادر :

( 1 ) : سورة الأنـفال - 47

( 2 )  : ( كنز العمال : 28686 )

( 3 ) : سورة البقرة – الأية 213

( 4 ) : دليل عملى لاستخدام الوساطة في حل النزاعات - كارل أ . سليكيو – ترجمة : د . علا عبد المنعم -   ص:50