الميرزا الأصفهاني و تأصيل المعرفة الدينية

المدرسة التفكيكية والتأصيل للعقل الشيعي

الشيخ زكريا داوود                                           

نشط الفكر الفلسفي في بداية القرن الحادي عشر الهجري على يد آخر أكبر فلاسفة المسلمين، صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي (ت 1050هـ/1640م) المعروف بالملا صدر أو صدر المتألهين، فقد أحيا الفكر الفلسفي بعد أن كاد يصبح أثراً بعد عين، وألف كتابه (الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة) والذي يعد موسوعة فلسفية متكاملة، وقد سعى مؤلفه من خلال تعمقه في آثار الفلسفة الإشراقية والمشائية وتمرسه في علوم أهل الكشف وإلمامه بالمأثورات الواردة في الشريعة المحمدية الحقة، والسير في أفكار الإفلاطونيين الجدد منهم والقدماء، والإحاطة بجميع الأفكار والمشارب، أن يؤسس طريقة جديدة راجحة ومتقدمة على كل التيارات والمذاهب الفلسفية، حيث استطاعت هذه المدرسة أن تهضم الأفكار العميقة للشيخ الرئيس ولأتباع المدرسة المشائية وآراء الإفلاطونيين الجدد، والرؤى المعروفة بدقتها وعمقها، مضافاً إلى أفكار الحكماء والإشراقيين، وتتمثلها وتستوعبها بتمامها[1].

ومع نمو هذا التيار الفلسفي واستحكام مبانيه وتكامل أطروحته وتظاهره بالتسليم والأخذ من منابع الوحي، إلا أنه بدأت تنمو معه ردة فعل قوية ومعارضة رفضت كل تلك الأسس والأفكار التي بشرت بها مدرسة الملا صدرا، وقد تمثلت ردة الفعل من خلال الاتجاه نحو التأصيل للفكر والمعارف الشيعية من خلال التأسيس لعمل موسوعي يتجه نحو تدوين جديد للنص الديني، وتمثلت المعارضة في مدرسة الفقه واستظلت بأكبر مؤسسة معرفية في الدولة الصفوية.

وقاد تلك المعارضة فقيهان من أكثر الفقهاء نفوذاً في مؤسسة الدولة، والذين سوف يصبحان أكثر نفوذاً في التأسيس لصحوة معرفية راديكالية، وسوف يكتب لجهودهما أن تكون أكثر تأثيراً في بناء العقل الشيعي، وكان الفقيه الأول هو المحدث محمد بن الحسن المعروف بالحر العاملي (1033-1104هـ) الذي أنتجت جهوده تدشين موسوعة حديثية أصبحت فيما بعد من أهم موسوعات الحديث عند فقهاء الشيعة في اعتمادهم عليها عند القيام بعملية الاستنباط للحكم الشرعي، وقد حملت الموسوعة اسماً له دلالته المهمة في الحرب على الفكر الفلسفي حيث سمى تلك الموسوعة التي وقعت في ثلاثين مجلداً (تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة)، كما ألف كتاباً يمكن وضعه في سياق الحرب على الأفكار الفلسفية والصوفية التي تلبست واتكأت على بعض مقولات الفلسفة، وقد سمى كتابه بـ(رسالة الاثني عشرية في الرد على الصوفية).

أما الفقيه الآخر الذي كان أكثر سطوة وقوة ونفوذاً في السلطة وفي المجتمع الإيراني، فهو العلامة المحدث الشيخ محمد باقر المجلسي (1037-1111هـ/1627-1700م) الذي كان شيخ الإسلام في الدولة الصفوية، وقد أفاد من موقعه هذا في التدشين لثاني عمل موسوعي في القرن الثاني عشر للهجرة النبوية، وأصبحت هذه الموسوعة أكبر كتاب جمع فيه روايات وأحاديث الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام)، حيث بلغ أكثر من مائة وعشرة مجلدات، وقد سماه (بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار).

ويقول العلامة المجلسي بعد أن يذكر اسم كتابه: «فأرجو من فضله سبحانه على عبده الراجي رحمته وامتنانه أن يكون كتابي هذا إلى قيام قائم آل محمد (عليهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام) مرجعاً للأفاضل الكرام، ومصدراً لكل من طلب علوم الأئمة الأعلام، ومرغما للملاحدة اللئام»[2].

وفي المقطع الأخير من النص يتبدى واضحاً الهاجس الذي دفع بالمجلسي لتأليف كتابه، وهو يأتي في سياق الدفاع عن علوم الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، من خلال رد أفكار الملاحدة اللئام وتفنيد شبهاتهم، وفي نص آخر يوضح فيه المجلسي الحالة الثقافية السائدة، وتبيين إلى أين تتجه حركة الفكر، حيث مال الناس عن علوم أهل البيت (عليهم السلام) مما أبعدهم عن الهداية والرشاد: ولما رأيت الزمان في غاية الفساد ووجدت أكثر أهلها حائدين عما يؤدي إلى الرشاد، خشيت أن ترجع عما قليل إلى ما كانت عليه من النسيان والهجران، وخفت أن يتطرق إليها التشتت، لعدم مساعدة الدهر الخوان، ومع ذلك كانت الأخبار المتعلقة بكل مقصد منها متفرقاً في الأبواب، متبدداً في الفصول، قلما يتيسر لأحد العثور على جميع الأخبار المتعلقة بمقصد من المقاصد منها، ولعل هذا أيضاً كان أحد أسباب تركها، وقلة رغبة الناس في ضبطها[3].

وتواصلت مسيرة الفقهاء المناهضة للفكر الفلسفي وبلغت ذروتها على يد المدرسة الإخبارية وبالأخص عند اثنين من المحدثين اللذين لا زالت أفكارهما تفرض حضورها على النتاج الفقهي والأصولي لمدرسة الوحي والإمامة، وهما المحدث محمد أمين الاسترآبادي (ت 1033هـ)، الذي سعى إلى تقويض أسس الاستدلال المنطقي ورفض مدخليتها في عملية فهم الحكم الشرعي واستنباطه، وأسس لمنهج وصف بعضه بالجدة والحداثة والثورية أيضاً، وقد جمع آراءه في كتاب أسماه (الفوائد المدنية).

أما الفقيه الآخر الذي سار على نهج سلفه فهو المحدث الشيخ يوسف البحراني(1107- 1186هـ/1695-1772م) الذي يعد رائد مدرسة إخبارية معتدلة، وقد قام المحدث البحراني (قدس سره) بجهد كبير في مجال تنقية الفكر الأصولي من الأبنية الأرسطوقراطية التي تسربت إليه، وقد بيَّن في مقدمات كتابه منهجه في تحليل النصوص واستنباط الأحكام الشرعية، وقد جاء كتابه الذي سماه (الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة)، موسوعة فقهية حديثية فكرية رائعة، وأبدع في كتابه وأتى بالكثير من النظرات التي أثرت فيما بعد على حركة الفقه الشيعي، ولعل أبرز المؤثرات التي حدثت في حياته هو التأثير في محمد باقر بن محمد أكمل المعروف بالوحيد البهبهاني (1118ـ1206هـ/1706ـ1791م)، والذي كان رائد المدرسة الفقهية الأصولية حيث خفف من نزعة التوجه نحو علم الأصول وزيادة الاهتمام بروايات أهل البيت (عليهم السلام).

كان هذا التوجه نحو تأسيس الفقه بعيداً عن مؤثرات علم المنطق والفلسفة، يرافقه تيار معرفي آخر كان أبطاله مجموعة من الفقهاء الذين كانت مبرراتهم كما سوف نرى هي مبررات المدرسة الإخبارية ذاتها، لكن بالطبع هناك الكثير من الفروقات، وكانت ذروة نقد الفكر الفلسفي قد تبلورت فيما بعد فيما عرف بالمدرسة التفكيكية والتي كان قادتها فلاسفة وعرفاء اكتشفوا عقم المناهج الفلسفية، وفيما يلي سوف نبحث في أسس وأصول ورجالات تلك المدرسة ثم نتعرف على أبرز المؤاخذات على هذا الفكر الذي بدأ يفرض حضوره واحترامه في حركة الفكر الديني والفلسفي الإسلامي المعاصر.

نظرة تاريخية على المدرسة ومراحل تطورها

التفكيك في اللغة بمعنى الفرز والفصل والتنقية، وجعل الشيء خالصاً، ومدرسة التفكيك هي مدرسة تُعنى بضرورة التفكيك بين ثلاثة مسالك معرفية في تاريخ الفكر الإنساني وهي:

1- المسلك القرآني.

2- المسلك العرفاني.

3- المسلك الفلسفي.

تهدف هذه المدرسة أساساً إلى فهم المعارف القرآنية فهماً خالصاً ونقياً بعيداً عن عملية التأويل والمزج بينها وبين الأفكار والمذاهب والنحل الأخرى، وكذلك بعيداً عن التفسير بالرأي وعن محاولات التحميل والإسقاط كي تبقى حقائق الوحي وأسس ومنطلقات (العلم الصحيح) نقية ومصونة لا تعكر صفوها معطيات الفكر الإنساني ولا يشوبها الذوق الإنساني[4].

وبالطبع تختلف مدرسة التفكيك هذه عن المدرسة المنسوبة إلى جاك دريدا (1930-2004م)، الفيلسوف الفرنسي من أصل جزائري، رائد مدرسة تفكيك النص (تفكيك البناء)، أشهر فيلسوف في العصر الحديث، فليس هناك صلة بين المدرستين، بل وتختلف هذه المدرسة كثيراً عن مدرسة دريدا، إذ يسعى دريدا إلى تفكيك النص الأدبي ليصل إلى نتيجة أن النص كل نص يتشظى فهمه بعدد قارئيه، فليس للنص الأدبي أي معنى محدد، إلى درجة اعتبر أن النص لا يمكن فهمه حتى لمبدعه وكاتبه.

 ومع أن هذه المدرسة بما تحمل من هموم وتطلعات وأصول فكرية ليست حديثة أو وليدة العصر الراهن إلا أن التسمية بـالتفكيك جاءت لأول مرة على لسان الحكيمي أحد رواد هذه المدرسة، وقد أبرز في كتابه الذي وضعه للتعريف بالمعالم العامة لهذه المدرسة الكثير من الأفكار المهمة التي لا بد من دراستها والتأمل في محتواها لأنها ستشكل منعطفاً مهماً في حركة التأصيل للفكر الإسلامي في العصر الراهن.

تعتقد مدرسة التفكيك أن متبنياتها ليست حديثة وإنما تمتد وتبدأ كمنهج مع نزول النص الديني الأول، القرآن الكريم الذي أسس لمنعطف جديد للبشرية، ولأهمية المرحلة فإن القرآن بدأ التبشير بقطيعة تامة مع الأساطير والأفكار البشرية التي يغلب عليها طابع الوثنية والكفر، مع كونها مغلفة بالكثير من الأساطير والخرافات، ولا يمكن لدين يسعى لإحداث نهضة وتغيير جذري أن يعتمد على ما كان سائداً من أفكار ومنظومات معرفية تشكلت بعيداً عن هدى الوحي.

ومن هنا كان لا بد لهذا المنهج أن يبسط نفوذه في العقلية التي يريد تحديثها وتجديد مرئياتها لتكون عوناً سليماً وصحيحاً في إحداث النهضة الحضارية، لذا فإن مدرسة التفكيك مدرسة عريقة وتعود في نشأتها إلى صدر الإسلام، أي أن الاعتقاد بأن حقائق الدين القويم والمعرفة الصحيحة هي نفسها التي وردت في القرآن الكريم، وتم بيانها على يد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعده أوصيائه -وهم حملة علمه- وأنها حقائق وتعاليم مطابقة للواقع، وهي أفضل وأسمى مما قاله الآخرون -وحتى الأديان السماوية الأخرى- ولا حاجة لها لأي فكر آخر، وتتسم بالاستغناء والاكتفاء الذاتي والقدرة على تلبية كافة المتطلبات المعرفية للإنسان.

وهذه العقيدة تحمل نفس ذلك التيار الإيماني القوي بالوحي والكتاب والسنة عبر التاريخ الإسلامي منذ صدر الإسلام وحتى الوقت الحاضر، إذ كان أصحاب المعرفة من صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعدهم أصحاب الأئمة (عليهم السلام) والكثير من العلماء الكبار على امتداد العصور الإسلامية وحتى العصر الحالي يحملون هذا المبدأ العقائدي والمعرفي نفسه ويعتبرونه هو أساس الدين ـ في جانب المعرفة ـ وهو كذلك في الواقع[5].

وبالتأكيد أن الكثير من الفقهاء كان يتبى هذا المنهج في علاقته مع العلوم الوحيانية والعلوم البشرية، وقد تبدى هذا المنهج بشكل واضح عند المحدثين، وأخذ به أغلب فقهاء الشيعة، وكان هذا الأمر سبباً لحرب كلامية بين مدرسة الفقه التي اعتمدت على النص وبين مدرسة العقل التي اعتمدت طرقاً عقلية ورجعت لآليات من خارج المنظومة المعرفية الإسلامية لفهم أحكام الدين في فروعه وأصوله، وقد كان رواج التيار الفلسفي أحد الأسباب المهمة في تقوية الاتجاه نحو تأصيل المعرفة الدينية، والتي كان أحد تجلياتها الرجوع للنص الديني الموحى والمفسِّر للوحي، ولو رجعنا لأبرز محدث في القرن الرابع وصاحب أول موسوعة حديثية لدى الشيعة الإمامية، لرأيناه يعد نمو التوجه نحو تيار الفلسفة أحد الأسباب المهمة التي دعته لجمع أحاديث الأئمة (عليهم السلام) وإبراز ما فيها من معارف تغني البشرية وتجيب عن كل الأسئلة المعرفية التي احتار في الإجابة عنها العقل الفلسفي الذي لم يقدم سوى تجديد آليات الفلسفة اليونانية التي كان الطابع الوثني لأصولها واضحاً.

يقول المحدث الشيخ محمد يعقوب الكليني (ت 329هـ/ 941م) في مقدمة كتابه عند ذكر الأسباب التي دعته لتأليف كتابه: «فهمت يا أخي ما شكوت من اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة وتوازرهم وسعيهم في عمارة طرقها، ومباينتهم العلم وأهله، حتى كاد العلم معهم أن يأزر كله وينقطع مواده، لما قد رضوا أن يستندوا إلى الجهل، ويضيعوا العلم وأهله، وسألت: هل يسع الناس المقام على الجهالة والتدين بغير علم، إذا كانوا داخلين في الدين، مقرين بجميع أموره على جهة الاستحسان، والنشوء عليه، والتقليد للآباء، والأسلاف والكبراء، والاتكال على عقولهم في دقيق الأشياء وجليلها»[6].

ثم يقول في مقطع آخر:

ولهذه العلة انبثقت على أهل دهرنا بثوق هذه الأديان الفاسدة، والمذاهب المستشنعة التي قد استوفت شرائط الكفر والشرك كلها، وذلك بتوفيق الله تعالى وخذلانه، فمن أراد الله توفيقه وأن يكون إيمانه ثابتاً (مستقراً)، سبب له الأسباب التي تؤديه إلى أن يأخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعلم ويقين وبصيرة، فذاك أثبت في دينه من الجبال الرواسي، ومن أراد الله خذلانه وأن يكون دينه معاراً (مستودعاً) - نعوذ بالله منه - سبب له أسباب الاستحسان والتقليد والتأويل من غير علم وبصيرة، فذاك في المشيئة إن شاء الله تبارك وتعالى أتم إيمانه[7].

من خلال هذا العرض السريع يمكن القول: إن التيار السائد في المنظومة المعرفية لمدرسة الوحي والإمامة هو الرافض لمعطيات الفلسفة اليونانية والداعي للرجوع في تحصيل المعرفة وبالأخص الدينية للقرآن الكريم والسنة المروية عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، ولم تكن الفلسفة تحظى بالقبول بشكل كامل أبداً، مع أنها واصلت مسيرتها عند قسم من فقهاء الشيعة الذين اشتغلوا ببحوثها وقاموا بتدريسها وشرحها وفي أحيان عديدة تجديدها، كما رأينا ذلك عند صدر الدين الشيرازي، وقبله عند محمد باقر بن المير الحسيني الاسترآبادي والمعروف بالمحقق الميرداماد (1041هـ/1631م)، وعند محمد بن الحسن المعروف بالمحقق الخواجة نصير الدين الطوسي (ت672هـ/1273م)، إلا أنها لم تشكل أبداً التيار السائد في التفكير والمعرفة الدينية.

المؤسس.. ورواد مدرسة التفكيك

ومع أن التيار السائد في الحوزة العلمية هو الداعي للرجوع للنص بعيداً عن مؤثرات الفلسفة وآلياتها، إلا أن تيار مدرسة التفكيك لم يتبلور كمدرسة فكرية ذات أسس منهجية واضحة إلا في بداية القرن الرابع عشر للهجرة، حيث تأسست في خراسان مدرسة نشطت بشكل كبير وبدأت معالمها تتضح وخياراتها تتبلور مع مجيء المؤسس الميرزا مهدي الأصفهاني (1303ـ1365هـ/1885ـ1946م)، ويأتي بعد الأصفهاني تلامذته الذين أخذوا المعارف منه وتلقوا أصول العقائد والحكمة عنده، وهم كثيرون لكن أبرزهم:

1- آية الله الشيخ مجتبى القزويني (1318-1386هـ/1900-1966م)، وأبرز مؤلفاته التي ضمَّن فيها فكر ورؤى مدرسة التفكيك والذي يعد أحد أهم كتب المدرسة هو (بيان الفرقان)، وهو كتاب من خمسة مجلدات.

2- آية الله السيد محمد كاظم المدرسي (ت 1414هـ/1994م) فقيه عارف وهو أحد تلامذة الميرزا الأصفهاني البارزين، ألف كتاباً مهماً يندرج ضمن الكتب المنهجية لمدرسة التفكيك أسماه (بحوث في العلم)، كما أنه سعى بكل جد لتربية جيل من الفقهاء يحمل رسالة وفكر المدرسة، وبالفعل ربى أهم شخصية وأبرز فقيه وصل بالمدرسة إلى كمالها ونضوجها، وهو الفقيه آية الله العظمى المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي (دام ظله) والذي يمكننا أن نعده صاحب مدرسة فكرية متميزة، وسوف نفرد دراسة خاصة لبحث أرائه كما هي في كتبه كالمنطق الإسلامي أصوله ومناهجه، والعرفان الإسلامي بين نظريات البشر وبصائر الوحي، والفكر الإسلامي مواجهة حضارية، ومبادئ الحكمة، والتشريع الإسلامي أصوله ومناهجه، وغيرها من الكتب التي توضحت فيها المعرفة الدينية من خلال نظرية تفكيك المعرفة.

3- آية الله الميرزا حسن علي مرواريد (1329-1425هـ/1911-2004م) وهو أحد تلامذة الأصفهاني الذين كان لهم دور بارز في حوزة خراسان، حيث قام يتدريس معارف أهل البيت (عليهم السلام) وتخرج عليه العديد من الطلبة والعلماء، وساهم بشكل مباشر في تكريس فكر مدرسة التفكيك في حوزة خراسان حتى أصبح التيار السائد هناك هو تيار مدرسة التفكيك، وجاء كتابه (تنبيهات حول المبدأ والمعاد) ليبرز فيه خلاصة رؤية مدرسة التفكيك حول وجود الله جلت قدرته والبراهين الدالة عليه، وحول الأدلة المثبتة للمعاد، وقد اختار هذين الأمرين لأن الفلسفة البشرية جاءت بالكثير من الأفكار الخاطئة حولهما، كنظرية وحدة الوجود، والقول بالمعاد الروحاني وغيرها.

4- آية الله الشيخ محمد باقر الملكي الميانجي (1324-1418هـ/1906-1998م)، وقد درس عند الاصفهاني الفقه والأصول والمعارف والعلوم الإسلامية، كما درس قبل ذلك عند الشيخ مجتبى القزويني المباحث العقائدية ومعارف أهل البيت (عليهم السلام) ودروساً في نقد الفلسفة، وقد ألف الميانجي العديد من الكتب التي يوضح فيها رؤية مدرسة التفكيك أهمها: توحيد الإمامية، ومناهج البيان في تفسير القرآن، وبدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام، كما أن لديه تقريرات لدرس أصول الفقه للميرزا الأصفهاني، وتصب هذه الكتب في توضيح منهج مدرسة التفكيك في تنقية المعارف الدينية من الأفكار الفلسفية والعرفانية.

5- آية الله الميرزا الشيخ جواد الطهراني (1325-1410هـ/1907-1989م)، الذي ركز جهده في الدفاع عن مدرسة التفكيك، كما قام بجهد كبير في نقد مدرسة العرفان من خلال تأليفه القيم: عارف وصوفي چه مي كويند؟ (العارف والصوفي ماذا يقولان؟) إذ يعتبر هذا الكتاب أبرز مؤلفات تلامذة الميرزا الأصفهاني الذي قدَّم فيه نقداً شديداً لمنهج العرفان وما مثلَّه هذا المنهج من امتداد للفكر الفلسفي، كما ركز نقده على الفكر الفلسفي من خلال كتابه الآخر (ميزان المطالب) الذي خصصه للبرهنة على أصول الدين من خلال استدعاء النص الديني وتبيان أغلاط الفلاسفة في مباحث التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد.

6- آية الله الشيخ علي النمازي الشاهرودي (1333-1405هـ/1915-1985م)، وهو فقيه عالم له تحقيقات مهمة في علم الرجال والحديث، وبلغ من الاهتمام بعلم الحديث ومعرفته حتى وصفه أحد الفقهاء المعاصرين بأنه مجلسي زمانه، كما أنه كان ملماً بالفلسفة متضلعاً في بحوثها، ويعد من الشخصيات البارزة على صعيد تطوير ونشر فكر مدرسة التفكيك، أبرز كتبه التي أبرز فيها فكر مدرسة التفكيك هي: (مستدرك سفينة البحار)، و(أبواب رحمت)، خصصه للبحث في أصول الدين، و(تاريخ الفلسفة والتصوف)، وهو كتاب أوضح فيه نظرة مدرسة التفكيك لمنهجي الفلسفة والتصوف، و(رسالة تفويض)، و(رسالة علم غيب إمام)، وغيرها من الكتب الذي سعى من خلالها لإبراز ضرورة تفكيك المعارف الدينية عن المعرفة البشرية.

7- آية الله الشيخ محمد جواد بن المحسن بن الحسين الخراساني (1331-1397هـ/1913-1977م)، وهو أحد شارحي أراء مدرسة التفكيك، وقد منحه أستاذه الأصفهاني إجازة الاجتهاد، أبرز كتبه التي أوضح فيها آراء مدرسة التفكيك هو (هداية الأمة إلى معارف الأئمة) وقد حمل فيه على الفلسفة والتصوف، واعتبر كتابه هذا أول كتاب من نوعه، حيث شرح فيه فقط مسألة التوحيد وما يتعلق بها من قضايا، لكن ما يلفت النظر أنه يختلف مع كل أقطاب مدرسة التفكيك في مسألة اعتبار المعرفة بالله تعالى فطرية بمعنى كونها مركوزة في فطرة الإنسان، حيث يرفض هذا الرأي ويناقشه، ويسعى لتوجيه الآيات والروايات التي جاءت في تعريف الفطرة والتي استند عليها أقطاب مدرسة التفكيك وغيرها من المدارس الفكرية.

إن الحديث عن تلامذة الأصفهاني له أهمية كبرى إذ تبرز لنا عمق تأثير هذه المدرسة في تكوين العقل الشيعي المعاصر، إذ خرَّجت هذه المدرسة جيلاً من الفقهاء الذين ساهموا بشكل كبير في إعادة توجيه الفكر الديني داخل الحوزة العلمية التي تعتبر المؤثر الأول والأكبر في تشكيل الوعي والفكر الشيعي، وإذا نظرنا لعمق تأثير مدرسة التفكيك فإنه يمكننا القول: إنها أقوى المدارس الفكرية والمعرفية داخل الحوزة العلمية، وأحد الدلائل لذلك هو وصول روادها وحملة فكرها لأعلى مراتب التوجيه داخل الحوزة، ففي العصر الراهن نلحظ أن أكبر شخصية سياسية مؤثرة في إيران والمنطقة عموماً وهو مرشد الجمهورية الإسلامية المرجع الديني آية الله العظمى السيد علي الخامنئي[8] أحد أنصار هذا الفكر ويلاحظ أنه بعد توليه منصب ولاية الفقيه دعم وساهم في نهضة مهمة لحقل الدراسات القرآنية على حساب الفلسفة التي بدأت تتراجع داخل الحوزة، وشخصية أخرى مؤثرة ولها نفوذ واسع داخل الحوزة هو المرجع الديني آية الله العظمى السيد علي السيستاني[9] الذي يعد أحد تلامذة الأصفهاني المباشرين ولا زالت آراؤه تفرض حضورها في بحث الخارج الذي يلقيه على طلبته، وفي قم هناك شخصية بارزة على صعيد دراسات البحث الخارج وهو المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ حسين وحيد الخراساني[10] الذي يعد أحد تلامذة الأصفهاني، كما أن أسرة الشيرازي ممثلة في المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي[11] وآية الله العظمى المرجع الديني السيد صادق الشيرازي، هم من أبرز أنصار مدرسة تفكيك المعارف، وهناك الكثير من الشخصيات المهمة التي تؤمن بفكرة التفكيك بين المناهج الثلاثة في المعرفة والتي ترى ضرورة الرجوع لمدرسة الوحي والإمامة لتحصيل المعارف.

تجربة الأصفهاني ورحلة الانتقال

لم يكن الأصفهاني وهو يتجه نحو تحصيل المعارف الفلسفية والعرفانية يشعر بالطمأنينة وسكون القلب، وكل يوم يمر عليه تزداد التساؤلات ازدحاماً في عقليته، وتتكاثر الإشكاليات المعرفية حتى تصل إلى الذروة، ويقرر أنه آن الأوان للخلاص والانعتاق من كل التراكمات الفكرية التي بدأت تثقل كاهله وتشل حركة فكرة وتزيده تحيراً، فما كان يفترض أن تؤديه الفلسفة والعرفان من إخراجه من الحيرة والمحنة الفكرية لم يكن يحدث أبداً.

هنا فكر الأصفهاني في الحل والخروج من الأزمة، لكن ذلك الفكر الذي يعتمد على الدليل والبرهان، وتلك المعرفة التي تركز على القلب وحالة الشهود يجرانه إليهما، فهو لم يعرف فكراً يعتمد على المنطق والبرهان إلا ما درسه عند أساطين الفلسفة الذين قاموا بجهد كبير في تكريس مدرسة ملا صدرا عبر شرحها والتدليل على صحتها وصوابية آرائها، وكان النص الديني يطوع ويلوى عنقه حتى يصبح دليلاً ومؤيداً على صوابية المنهج الفلسفي الصدرائي، كما أن منهج العرفان كان يتوسل بمنهج الفلسفة وفي الضمن يستدعي النص الديني ليصحح مكاشفات العارف.

لكن ذلك لم يكن ليثني الأصفهاني عن عزمه ورغبته العارمة في الخروج من الحيرة والانعتاق من كل تلك التراكمات الفكرية، ولم يكن أمامه إلا التوجه نحو سفن النجاة أهل البيت الطاهرين (عليهم السلام)، هنا بدأ يتلمس الطريق وبدأ يشعر بقرب المخرج من أزماته الفكرية والمعرفية، لكن أين يتجه؟، بالطبع لم يكن هناك غير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (صلى الله عليه وآله وسلم) وبنيه الأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، لكنه توجه لإمام زمانه الإمام محمد ابن الحسن المهدي (عجل الله فرجه الشريف)، فذهب لمسجد السهلة وهناك بدأ رحلة العودة، ولنلق نظرة على هذه التجربة الروحية الرائدة عبر الاستماع للأصفهاني نفسه كما ينقلها لنا أحد تلامذته وهو الشيخ النمازي الذي يبرز لنا عمق عواطفه تجاه أستاذه ومربيه:

قال مولانا الأستاذ: أفاض لي العلامة النائيني مهمات الفقه والأصول واستفدت منه مدة منفرداً وأول من لحق بنا العلامة السيد جمال الگلپايگاني، ثم بعد مدة لحق بنا واحد بعد واحد حتى صرنا سبعة أفراد من الأوتاد، وتم لنا دورة الفقه والأصول في سبع نفرات وكنا في محضره الشريف إلى أربع عشرة سنة.

وحين بلغ إلى خمس وثلاثين سنة سنه الشريف نال أعلى مراتب الاجتهاد وأجازه العلامة النائيني وغيره أحسن الإجازات، ومما عبر به في إجازته المفصلة التي كتبها النائيني بخطه الشريف في شوال 1338 هجري المزينة بخطوط جمع من الأعاظم المراجع الكرام وتكون عندي، قال: العالم العامل والتقي الفاضل العلم العلام والمهذب الهمام ذو القريحة القويمة والسليقة المستقيمة والنظر الصائب والفكر الثاقب عماد العلماء وصفوة الفقهاء الورع التقي والعدل الزكي جناب الآقا ميرزا مهدي الأصفهاني أدام الله تعالى تأييده وبلغه الأماني، إلى أن قال: وحصل له قوة الاستنباط وبلغ رتبة الاجتهاد وجاز له العمل بما يستنبطه من الأحكام .. الخ.

وكان مشتغلاً بتعلم الفلسفة المتعارفة وبلغ أعلى مراتبها قال: لم يطمئن قلبي بنيل الحقائق ولم تسكن نفسي بدرك الدقائق فعطفت وجه قلبي إلى مطالب أهل العرفان فذهبت إلى أستاذ العرفاء والسالكين السيد أحمد المعروف بالكربلائي في كربلاء وتلمذت عنده حتى نلت معرفة النفس وأعطاني ورقة أمضاها وذكر اسمي مع جماعة بأنهم وصلوا إلى معرفة النفس وتخليتها من البدن، ومع ذلك لم تسكن نفسي إذ رأيت هذه الحقائق والدقائق التي سموها بذلك لا توافق ظواهر الكتاب وبيان العترة ولابد من التأويل والتوجيه.

ووجدت كلتا الطائفتين كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، فطويت عنهما كشحاً، وتوجهت وتوسلت مجدًّا مكدًّا إلى مسجد السهلة في غير أوانه باكيا متضرعاً متخشعاً إلى صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه الشريف)، فبان لي الحق وظهر لي أمر الله ببركة مولانا صاحب الزمان (عجل الله فرجه الشريف)، ووقع نظري في ورقة مكتوبة بخط جلي: طلب المعارف من غيرنا أو طلب الهداية من غيرنا (الشك مني) مساوق لإنكارنا، وعلى ظهرها مكتوب: أقامني الله وأنا الحجة ابن الحسن.

قال: فتبرأت من الفلسفة والعرفان وألقيت ما كتبت منهما في الشط ووجهت وجهي بكله إلى الكتاب الكريم وآثار العترة الطاهرة فوجدت العلم كله في كتاب الله العزيز وأخبار أهل بيت الرسالة الذين جعلهم الله خُزَّاناً لعلمه وتراجمة لوحيه، ورغَّب وأكد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتمسك بهما، وضمن الهداية للمتمسك بهما[12]، فاخترت الفحص عن أخبار أئمة الهدى والبحث عن آثار سادات الورى، فأعطيت النظر فيها حقه وأوفيت التدبر فيها حظه، فلعمري وجدتها سفينة نجاة مشحونة بذخائر السعادات وألفيتها فلكاً مزيناً بالنيرات المنجية من ظلمات الجهالات، ورأيت سبلها لائحة وطرقها واضحة وأعلام الهداية والفلاح على مسالكها مرفوعة.

ووصلت في سلوك شوارعها إلى رياض نضرة وحدائق خضرة مزينة بأزهار كل علم وثمار كل حكمة إلهية الموحاة إلى النواميس الإلهية فلم أعثر على حكمة إلا وفيها صفوها، ولم أظفر بحقيقة إلا وفيها أصلها، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

ثم خرج الأستاذ الأعظم من العراق عازماً إلى إيران فاختار مجاورة الإمام الرؤوف علي بن موسى الرضا (عليه السلام) وشرع في التعليم والتدريس مطالب الفقه والأصول ومعارف القرآن في مدة قريبة من ثلاثين سنة وقوَّم الأفاضل والأكارم بأحسن تقويم وأفاض مطالب الأصول في ثلاث دورات: الأول بنحو المفصل والمبسوط على المرسوم، والثاني في إثبات ما يختاره في ذلك بالأدلة التامة، والثالث مهمات مباحث الأصول التي يتوقف عليها الاستنباط.

وكذلك أجاد فيما أفاد من الفقه ومعارف القرآن وكان ساعياً مجداً في نشر العلوم والمعارف بحيث لم يكن له تعطيل في تمام السنة إلا أياماً قليلة لا تبلغ عشرة أيام كل وقت على حسب ما يقتضيه ويرتضيه، فاستفاد من محضره الشريف الأفاضل والأماثل حتى بلغ أكثرهم رتبة الاجتهاد في الفقه والأصول والمعارف الإلهية فبلغوا من ذلك أعلاها ووصلوا إلى أسناها، والحمد لله الذي وفقني للتشرف بشرف محضره الشريف والاستفادة من مقامه الكريم مدة تقرب من خمس عشرة سنة، والحمد لله رب العالمين كما هو أهله ولا إله غيره[13].

الأصول الفكرية لمدرسة التفكيك

تعتمد مدرسة التفكيك على التفريق (التفكيك) بين العلوم البشرية التي لا تعتبر معصومة من الخطأ والزلل وبين العلوم الوحيانية التي لا يمكن أن تحيد عن الصواب، ولكي نحدد المنهج المعصوم من الخطأ ومن ثم نجعله ميزاناً تقاس به المعارف الأخرى، تفترض مدرسة التفكيك وجود ثلاثة مناهج معرفية تسعى لبلورة رؤية وإعطاء تصور عن حقول المعرفة العقائدية، وهذه المناهج هي:

1- المنهج الفلسفي العقلاني.

2- المنهج العرفاني الكشفي.

3- المنهج الوحياني الإسلامي المعتمد على القرآن الكريم وسنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) .

إن مدرسة التفكيك بعد أن قامت بدراسة تحليلية لهذه الفلسفة ولهذا العرفان وأجرت عملية تصنيف للنصوص الموجودة، وبعد الوقوف على الجذور والخلفيات التي يستند إليها كل من العرفان والفلسفة، ومع الأخذ بنظر الاعتبار حركة الترجمة التي شهدها العالم الإسلامي آنذاك، وانتقال العلوم اليونانية بفعل هذه الحركة وانضمامها إلى دائرة العلوم الإسلامية هي من سنخ الحضارة الإسلامية أي أنها ولدت في محضن المراكز والحواضر غير الإسلامية، وبالتالي فإن مدرسة التفكيك تنظر إلى الفلسفة الإسلامية في نشوئها وتبلورها على أنها نسجت على منوال الحضارة التي سبقت الإسلام، ونمت وترعرعت في ظل الإسلام واصطبغت بصبغته وخضعت لعملية تنقية وتكرير وإعادة صياغة من قبل المفكرين والفلاسفة والعرفاء المسلمين بما حملوه من ذهنية وقَّادة ومبدعة[14].

وبما أن الفلسفة والعرفان ليسا علمين خالصين بالنسبة لنشوئهما ومبانيهما، بل هما علمان ممزوجان بما هو من الدين من خلال أسلمة بعض تلك الأصول والمباني التي يعتمدانهما، وما هو مستقى من خارج منظومة المعرفة الدينية، كالفكر اليوناني، أو الفهلوي، أو الهندي، وبما أن هذا الفكر البشري ليس في استطاعته الوصول لمعرفة معصومة وبالأخص في مجال معرفة الأسس العقائدية كمباحث التوحيد والعدل الإلهي والخلق والنبوة والإمامة والمعاد، فإنه من الضروري ألاَّ تُعتمد تلك المناهج، لأن ذلك يؤدي بالضرورة للتيه والضلال عن الحق، لأن الله الخالق أوضح أن طريق فهم تلك القضايا ليست عن طريق العقل البشري لوحده، بل لتحقيق معرفة يقينية صادقة ومعصومة لا بد من الرجوع لمن أمر الله بالأخذ منه وهو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأئمة الطاهرين (عليهم السلام).

من هنا كان من الضروري للحصول على معرفة نقية صافية صحيحة أن نرجع لمصادر الوحي فقط، ولا بد أن نمارس عملية تفكيك لتلك المعارف والمناهج الممزوجة بضلالات الفكر البشري، كما أنه من الضروري أن نرجع للوحي ولكن دون الاعتماد على تلك المناهج لأن ذلك يكرس التيه والضلال، وعندما نسأل المدرسة التفكيكية عن منهج تنقية وتصفية الفكر البشري وعن الآليات التي نعتمدها للحصول على معرفة نقية خالصة وغير ممزوجة تجيبنا بأن الآليات هي كما يلي:

1- تعيين أطر وحدود وضوابط الآراء والحقائق والمعارف:

ما يميز المدرسة التفكيكية هو الانطلاق في تعريف الحقائق من خلال الوحي، إذ تجعل الفيصل في معرفة حقائق الأشياء والمعارف قول المعصوم، وبما أن تعريف الأشياء وضبط حدودها وتعيين مدلولاتها هو المدخل نحو فهمها بشكل صحيح، فإن المفاهيم التي تشكل محور البحث الفلسفي والبرهان العقلي كمفهوم العقل والروح والعلم والخلق، وكل ما يتعلق بمعرفة صفات الله، وقضية الوحي والنبوة ومنصب الولاية لابد من فهمها من خلال من له اختصاص الفهم وهو هنا المعصوم، وبالتالي فإن كل تلك المفاهيم يمكن فهم حقائقها فقط من خلال الرجوع لمن أمر الله بالأخذ منه، وليس للبشر قدرة تكوين معرفة تتسم بالعصمة والبعد عن الهوى ولا تتأثر بمعطيات تربوية أو اجتماعية أو بيئية أو سياسية، وما دام الأمر كذلك فإن الاعتماد على غير المعصوم يعني تعريض النفس لخطر غضب الرب الذي حدد أطر تحصيل تلك المعارف به وحده ومن نصبه وأمر بالرجوع إليه كالأنبياء والأئمة (عليهم السلام).

وللاقتراب من هذه الآلية المنهجية لمدرسة التفكيك ومعرفة مدى التزام رواد ومؤسسي هذه المدرسة بها نسلط الضوء على مفهوم العلم من خلال النظر لرأي مدرسة التفكيك والمنهج الفلسفي، لنرى هل هناك فرق بين المنهجين في معرفة الحقائق؟ وهل يمكن أن تختلف الفلسفة ومدرسة التفكيك في فهم مثل هذه القضايا؟ وما هو التأثير الذي يمكن أن يتركه تعريف المنهجين على صحة المعارف عند الإنسان المؤمن بالدين؟.

علم الله بين منهجين:

من البحوث الأساسية التي اهتمت بها الآيات القرآنية هي مسألة علم الله، لأن بحث ذلك يفتح آفاق كثير من المعارف الدينية حول معرفة الله سبحانه وتعالى، كمسألة القضاء والقدر، والبداء، والنسخ، وهي من أهم المباحث والمعارف الأساسية في تكوين العقيدة الدينية للمسلم، وأي خلل في فهم تلك المعارف يخرج الإنسان عن جادة الصواب ليركسه في الضلال والتيه عن الدين الحق، لأن الإسلام يتألف من مجموعة معارف مترابطة والخلل في أحدها يؤدي للخلل العام، ومن ثم يوصل الإنسان إلى العديد من الانحرافات الفكرية والسلوكية، ومن الواضح أن النظرة القرآنية لمسألة العلم ترتبط بقضية تربية الإنسان وتعديل ميوله وأفكاره ومن ثم تصحيح مسار حياته بصورة عامة.

وسوف نلاحظ الأهمية الكبرى للبحث في مسألة علم الله سبحانه وتعالى، وأن أحد أسباب الانحراف لدى الفكر البشري كما نشاهده عند بعض الفلاسفة والصوفية حيث قالوا بوحدة الوجود والموجود هو قولهم بوحدة المعلوم والعالم، يقول السبزواري وهو أحد أهم شُراح الفلسفة بعد ملا صدرا في حاشيته على كتاب الشواهد الربوبية:

القائل بالتوحيد إما يقول بكثرة الوجود وكثرة الموجود جميعاً ومع ذلك يعد من الموحدين لكونه متفوهاً بكلمة التوحيد وهذا توحيد العوام، وإما يقول بوحدة الوجود وكثرة الموجود بمعنى المنسوب إلى الوجود، فإن حقيقة الوجود عنده ليس لها أنواع ولا أفراد ولا مراتب ولا أجزاء عقلية وخارجية ولا قيام ولا عروض لها بالنسبة إلى المهية، بل واحدة بسيطة قائمة بذاتها، إنما المهيات منتسبات إلى هذه الحضرة والكثرة فيها لا فيه وهذا قول منسوب إلى ذوق التأله وهو توحيد الخواص وعكسه لم يقل به أحد بل لا يصح، وإما يقول بوحدتهما جميعاً وهو قول الصوفية حيث يقولون ليس في الواقع إلا وجود وموجود واحد..[15] وذهب بعضهم إلى نفي العلم عن الله سبحانه وتعالى، لأن العلم بالوجود المتكثر يقتضي الكثرة في الذات الإلهية تعالى الله، وبما أن الله أحدي الذات كما مر والعلم يقتضي التكثر فلم يكن أمام هؤلاء إلا نفي العلم عنه جلت قدرته.

ويمكننا أن نلاحظ ثلاث نظريات في بحث علم الله سبحانه وتعالى وهي:

1- نظرية إثبات العلم لله بكل شيء سواء كان موجوداً أو معدوماً صغيراً أو كبيراً شريفاً أو وضيعاً، فهو تعالى يحيط علماً بكل شيء، وهذا رأي تذهب إليه مدرسة الوحي والإمامة، وهو الرأي الذي يؤمن به التفكيكيون.

2- نفي العلم بالوجود المادي، لأنه متكثر خارجاً والعلم بالمتكثر إثبات للكثرة في عين الوحدة، وهو خلاف كونه تعالى صمداً أي لا تركيب في ذاته، كما أن العلم بالحادث المتجدد يعني العلم بعد الجهل تعالى الله عما يقولون، وهذا رأي بعض الفلاسفة.

3- العلم بالموجود علم بالذات، أي أن ذاته الوجود، فهو سبحانه مع وحدته وبساطته كل الأشياء، فعلمه بذاته عين علمه بكل شيء، وقد أفادوا ذلك بقولهم: تجلى بذاته لذاته.

العلم عند مدرسة التفكيك:

تعتبر التعريفات مدخلاً أساسياً لفهم أي قضية وموضوع، وكل خطأ في التعريف يوصل لخطأ في النتيجة، لأن النتائج تتبع أخس المقدمات، وبما أن تعريف العلم هو المدخل لفهم المقصود من علم الله سبحانه وتعالى، ولمعرفة موضع الخلل في الفهم البشري سوف نسلط الضوء على تعريف العلم بمعناه الكلي، وهو: حضور صورة الشيء عند العقل[16].

من خلال هذا التعريف وغيره من التعريفات التي زخرت بها كتب الفلاسفة والحكماء يكون العلم عندهم هو الصور المنتزعة من الخارج مجردة عن المادة، فالعلم هو الصور الذهنية التي ينتزعها العقل من الواقع المادي، ويقسمه الفلاسفة إلى حضوري وحصولي، ويقول العلامة الحلي: العلم هو الكشف وهو على قسمين انطباعي وحضوري، والأول ممتنع عليه تعالى فتعين الثاني، ودلائل العلم أربعة:

الأول: الإحكام.

الثاني: التجرد.

الثالث: استناد الأشياء إليه.

الرابع: الاختيار.

أي اختيار الصانع في مخلوقاته دليل على علمه تعالى بها وعلمه تعالى عبارة عن ظهور الأشياء عنده وانكشافها لديه لا بمعنى أنها لم تكن ظاهرة ثم ظهرت بل بمعنى أنها حاضرة لديه غير غائبة عنه[17].

ومن الطبيعي على مذهب الفلاسفة والحكماء أن تؤدي كثرة المعلوم إلى التكثر في ذات العالم وإن كانت كثرة بالصور المجردة، وهذا التكثر في المخلوق أمر مقبول ومعقول لديهم باعتبار أن الإنسان لا يمتنع عليه التركيب، لكن لما كان الله كما يصفه الفلاسفة بسيط غير مركب، فإن أي كثرة ممتنعة عليه، ومن هنا نفى قسم من الفلاسفة علم الله جلت قدرته، وقد ناقش العلامة الحلي في كتاب (تجريد الاعتقاد) هذا القول وأبطله.

لكن لو رجعنا للآيات القرآنية التي تحدثت عن علم الله سبحانه وتعالى وروايات أهل البيت(عليهم السلام) لرأينا أن كل تلك الأقوال باطلة وبعيدة عن الوحي وعن المعرفة الصحيحة لله سبحانه وتعالى.

آيات العلم:

قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز:

- ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾[18].

- ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[19].

- ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾[20].

- ﴿قُلِ اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾[21].

- ﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾[22].

- ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[23].

- أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}[24].

- ﴿اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾[25].

- وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}[26].

- ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾[27].

هذه الآيات وما في معناها من الآيات محكمة الدلالة بنفوذ علمه تعالى بجميع ما سواه من دون فرق بين دقيقه وجليله، وجزئياته وكلياته، وحيث أن كل غيب عنده شهادة وكل سر عنده علانية، فلا غيب ولا سر بالنسبة إليه تعالى، والمراد من الغيب ما لم يكن وما لم يوجد وكذلك الأعيان الموجودة التي حجب الله تعالى علمها عن عباده وما جرت سنته الحكيمة بإفاضة العلم بها في ألسنة أوليائه، مثل البرزخ والآخرة وما فيها من الحقائق.

الله سبحانه وتعالى هو العالم بهذه الغيوب في عرض سواء، سواء كان من الحوادث التي لما تكن أو الجزئيات المنقضية المتبدلة المتغيرة، أو التي تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام، أو ما كان في معرض الزيادة والنقصان، أو ما كان بقدر مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات والأرض يأت بها الله ويحصيها تعالى، فهو سبحانه علم وعيان بالغيب بالمعاني التي ذكرناها وكذلك علم وشهادة بالمعدومات التي لن تكون أبداً، أي الفرضيات المستحيلة والممكنة التي ما جرت سنته على إيجادها[28]

مدرسة الوحي والإمامة وعلم الله:

إن عدم التفريق بين علم الله سبحانه وتعالى وبين كيفية حصول العلم عند البشر جر الفلاسفة إلى تلك الأفكار الخاطئة، فتصوروا أن علم الله يحدث بانتزاع صور الأشياء من الأعيان الثابتة ومما هو موجود، وقد أُشكل عليهم بأن المعدومات لا صور لها فعلى هذا الزعم يكون الله غير عالم بالمعدومات، لكن الآيات القرآنية والروايات الصادرة عن الأئمة (عليهم السلام) تنبه إلى ضرورة التفريق بين صفات المخلوق والخالق، وقد مجد الله نفسه بعموم علمه ونفوذه لجميع الغيوب، كما في الآية الثالثة من سورة سبأ، فالآية تحكي أنه تعالى لا يفوت عن علمه شيء، حتى وإن كان مثقال ذرة في السماوات والأرض، فقوله: (عالم الغيب) فهي صفة ونعت للرب، واللام في الغيب للاستغراق، فيعم جميع الغيب، سواء كانت من الأعيان، أو مما لم يخلقه الله تعالى أي مما هو في خانة العدم، أو من الأعراض كأعمال العباد بالجوارح والجوانح من أول الدنيا إلى آخرها وغيرها من الغيوب، كالجزئيات المنقضية المتبدلة من الأعيان والأعراض الغامرة في ظلمة الغيوب.

عن الحسين بن بشار، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام)، قال: سألته أيعلم الله الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون أو لا يعلم إلا ما يكون؟ فقال: إن الله تعالى هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء، قال الله عز وجل: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وقال لأهل النار: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ فقد علم الله عز وجل أنه لو ردهم لعادوا لما نهوا عنه ، وقال للملائكة لما قالوا: ﴿قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ فلم يزل الله عز وجل علمه سابقاً للأشياء قديماً قبل أن يخلقها، فتبارك ربنا وتعالى علواً كبيراً خلق الأشياء وعلمه بها سابق لها كما شاء، كذلك لم يزل ربنا عليماً سميعاً بصيراً[29].

عن عبد الله بن مسكان، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الله تبارك وتعالى أكان يعلم المكان قبل أن يخلق المكان، أم علمه عندما خلقه وبعد ما خلقه؟ فقال: تعالى الله، بل لم يزل عالماً بالمكان قبل تكوينه كعلمه به بعدما كونه، وكذلك علمه بجميع الأشياء كعلمه بالمكان.

عن الفضل بن شاذان، قال: سمعت الرضا علي بن موسى (عليهما السلام)، يقول في دعائه: سبحان من خلق الخلق بقدرته، وأتقن ما خلق بحكمته، ووضع كل شيء منه موضعه بعلمه، سبحان من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وليس كمثله شئ وهو السمع البصير.

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله علم لا جهل فيه، حياة لا موت فيه، نور لا ظلمة فيه.

عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن الله نور لا ظلمة فيه، وعلم لا جهل فيه، وحياة لا موت فيه.

 

عن ابن سنان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: إن لله تعالى علماً خاصاً، وعلما عاما، فأما العلم الخاص فالعلم الذي لم يطلع عليه ملائكته المقربين وأنبياءه المرسلين، وأما علمه العام فإنه علمه الذي أطلع عليه ملائكته المقربين وأنبياءه المرسلين، وقد وقع إلينا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)[30].

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): وكل عالم فمن بعد جهل تَعَلَّم، والله لم يجهل ولم يتعلم، أحاط بالأشياء علماً قبل كونها فلم يزدد بكونها علما، علمه بها قبل أن يكونها كعلمه بعد تكوينها، علم ما خلق وخلق ما علم لا بالتفكر، ولا بعلم حادث أصاب ما خلق، ولا شبهة دخلت عليه فيما لم يخلق، لكن قضاء مبرم، وعلم محكم، وأمر متقن، توحد بالربوبية، وخص نفسه بالوحدانية، واستخلص المجد والثناء[31].

علم الله عند الفلاسفة:

يبحث الميانجي الذي هو أحد منظري مدرسة التفكيك قضية العلم ويورد أدلة مدرسة الوحي والإمامة -وقد مر بعضها كما رأينا- ومن ثم يقوم بشرحها وفهم مدلولاتها ليخرج بنظرة تتسم بالتأصيل والتأسيس الذي يبغي منه التفريق والتفكيك بين منهج الفلسفة ومدرسة التفكيك، وهنا لابد من القيام بعملية استرجاعية ذات بعدين الأول تجاه النص الديني والآخر تجاه الرأي العقلي لأتباع منهج الفلسفة، وسوف نورد بعض مناقشاته وعرضه لتلك الآراء لنعرف من خلال ذلك مدى قرب أي من المنهجين للصحة والسلامة، ولنعرف أسس وآليات التفكيك.

قال الشيخ الرئيس (369-428هـ/980-1037م): فصل في أن واجب الوجود كيف يعقل الأشياء: فأما كيفية ذلك فلأنه إذا عقل ذاته وعقل أنه مبدأ كل موجود، عقل أوائل الموجودات عنه وما يتولد عنها، ولا شيء من الأشياء يوجد إلا وقد صار من جهة ما واجباً بسببه، وقد بينا هذا، فتكون هذه الأسباب تتأدى بمصادماتها إلى أن توجد عنها الأمور الجزئية، فالأول يعلم الأسباب ومطابقتها فيعلم ضرورة ما تتأدى إليه وما بينها من الأزمنة وما لها من العودات، لأنه ليس يمكن أن يعلم تلك ولا يعلم هذه، فيكون مدركاً للأمور الجزئية من حيث هي كلية.

وقال أيضاً: لا يجوز أن يكون عاقلاً لهذه المتغيرات مع تغيرها من حيث هي متغيرة عقلاً وزماناً متشخصاً بل على نحو آخر نبينه، فإنه لا يجوز أن يكون تارة يعقل منها أنها موجودة غير معدومة وتارة يعقل منها أنها معدومة غير موجودة، ولك واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة ولا واحدة من الصورتين تبقى مع الثانية، فيكون واجب الوجود متغير الذات[32].

ويمكن أن نلخص كلام الشيخ الرئيس ابن سينا فيما يتعلق بمسألة علم الله بما يلي:

1- إنه تعالى يعقل ويعلم ذاته. 

2- إن علمه تعالى بذاته علم بالصورة.

3- إن علمه بذاته وبالصورة علة للصور.

4- إن الصور علة للأشياء.

5- إن علمه بالأشياء إنما هو بواسطة الصور وعلمه بالأشياء حصولي وبالصورة حضوري.

6- إن علمه تعالى بالجزئيات الزمانية المتغيرة على سبيل الحكم عند وجود شرائطه[33].

وبعد أن يورد الميانجي تلك الآراء والأقوال لفيلسوف كبير بلغ بالمذهب المشائي أوج كماله، ينقل رأي فيلسوف نهض بمدرسة ملا صدرا وسعى لتبني آرائها ومن ثم يشرع في عملية نقدية دقيقة يبرز من خلالها ما تذهب إليه مدرسة التفكيك، وهنا يتبدى الاختلاف المنهجي واضحاً، وتظهر تلك الروح التأصيلية التي تستنطق النص من خلال عملية واسعة من التحليل والاسترجاع النصي.

أقول: أما فرض علمه تعالى بذاته، فلا محصل له، لأنه سبحانه علم كله وكشف كله بجميع ما سواه، علماً وكشفاً غير متناهية شدة وسعة، والذي كانت نوريته في شدة غير متناهية يتأبى ويتقدس من صدق عنوان المعلومية عليه ولو بعلم نفسه، لأن حقيقيته هي الظاهرية والمظهرية للغير بالذات، لا أقول: إن الشيء الواحد لا يكون عالماً ومعلوماً، حتى يجاب بأن المغايرة الاعتبارية كافٍ في اعتبار العالمية والمعلومية، بل أقول إن المعلومية مستلزمة للمحاطية ومن نعوت الحقائق المظلمة بذاتها المكشوفة بالعلم، والله تعالى لمكان شدة نوريته وسعة علمه من غير حد ولا نهاية، ولا يعقل فيه جهة خفاء حتى يكون معلوماً ومحاطاً ولو بعلم نفسه، فالتعبير المناسب في المقام هو الظاهر بذاته والمظهر لجميع ما سواه من الحقائق المظلمة.

وأما إن علمه بذاته علم بالصور، فأقول: لا احتياج في علمه تعالى بالصور، إلى العناية المذكورة، أي أن علمه بذاته علم بالصور لأن الصور على فرض وجوده مكشوف للذات.

وأما القول بالصور وأنها أوائل الموجودات وأنها معلومة للذات في مرتبة متأخرة عن الذات، فإنما يفرض أن تكون مع الذات أزلاً وأبداً، لأنها معلولة العلم، والعلم بها فعلي علِّيُّ متبوع، وهذه الفرضية موهونة من جهات شتى، إلا أن الكلام في المقام من حيث كونها معلومة بالعلم الحضوري فقط دون غيرها من المعلومات، وفي أنه كيف صارت الذات كشفاً لها دون غيرها، وكيف يكون تعالى محتاجاً إلى هذه الصور في العلم بالأشياء؟! وأي احتياج في العلم بالأشياء بهذه الصور؟! والذي هو كشف تام لا يعقل أن يكون بالعلم الحضوري مشاهداً للصور فقط دون غيرها، فيكون علماً ببعض وجهلاً ببعض آخر، وإن شئت قلت: كشفاً حقيقياً ببعض وكشفاً حصولياً ببعض آخر وحكماً ببعض آخر، فنسبة العلم الحصولي إليه مع شدة نوريته ومظهريته لكل معلوم خلف واضح، والأمر الأعجب نفي علمه سبحانه بالجزئيات وأن العلم بها إنما يكون بوساطة الكليات[34].

تفكيك النص والمعطيات

2- الأخذ بظواهر النصوص ورفض مطلق التأويل:

من البحوث المهمة التي يتعرض لها الفقهاء ويعتبرونها مدخلاً لفهم النص الديني، هو مبحث الألفاظ، وهو من المباحث المهمة التي يتعرض لها الأصولي والفقيه بما أنه فقيه، أي من زاوية كونها آلة لفهم مدلولات النص ومعرفة ما يريد قوله ذلك النص من أحكام وتشريعات، ويبدأ البحث في الألفاظ في تحقيق حقيقة الوضع وأقسامه كالوضع التعييني والتعيني، وبحث المعنى الحرفي، واستعمال الألفاظ فيما هو الحقيقة والمجاز ودلالة الألفاظ، ومباحث المشتق وغيرها من البحوث التي يدخل بعضها في صميمية معرفة النص.

ولكيلا ندخل في تفاصيل تلك البحوث نورد رأي مدرسة التفكيك فيما يخص دلالة الألفاظ على معانيها، هل هي على نحو الدلالة الواقعية، أي أن الألفاظ تدل على معاني خارجية، أم أن وضع الألفاظ إنما كان على نحو الانتزاعية التصورية، أي أن الألفاظ وضعت لمتصورات ذهنية والألفاظ دلت على تلك المعاني الذهنية بوضع الألفاظ للتعبير عنها.

يقرر الميانجي رأي مدرسة التفكيك في المبحث اللفظي بقوله: إن مفتاح التعليمات في كل قوم هو ألفاظهم في لغاتهم وقد أنسوا بها وعرفوا معانيها، والألفاظ في كل لغة قوم وما هو المتعارف عندهم، موضوعة للخارج، فإن المشهود والمعلوم عندهم هي الأعيان والحقائق الخارجية[35].

وبالطبع يمثل هذا رأي أستاذ الميانجي الميرزا الأصفهاني الذي يعتبر التمايز بين الفلسفة والعلوم الإلهية ليس فقط في الأصول والبراهين التي يعتمدها العقل الفلسفي فحسب، بل هو تمايز يغطي مساحة واسعة من الاختلاف بين المنهجين، وفي كتابه (أبواب الهدى) الذي يخصص أغلبه للرد على المقولات الفلسفية يبدأ الباب الأول من كتابه بتدشين قطيعة تامة بين منهجه وما تذهب إليه الفلسفة فيقول:

 

الباب الأول من أبواب الهدى، وهو باب الأبواب، أنه لا جامع بين العلوم البشرية والعلوم الجديدة الإلهية في شيء من الأشياء حتى في مدخلها وبابها، فإن باب التعليمات هو الألفاظ الحاكية عن المرادات.

 

والألفاظ في العلوم الإلهية إشارات إلى نفس الحقائق الخارجية سواء كانت من أسماء رب العزة جل شأنه أو التي يشار بها إلى الحقائق النورية[36].

 

ويلاحظ المنزع الحسي لرائد مدرسة التفكيك، وهي لفته مهمة سوف نرى تجلياتها في غالب الحقول المعرفية التي يتبدى فيها التدشين لنظرية مادية كل ما عدا الخالق جلت قدرته، فالله وحدة في الوجود الذي لا تنطبق عليه قوانين المادة، أما كل ما خلقه الله فبنحو ما يكون محكوماً بتلك القوانين، وسوف نرى الميانجي يصرح بذلك عند تعرضه لحقيقة النفس والعلم والعقل والروح، وهو بعد أن يقرر أصل كون الألفاظ دالة على المعاني الخارجية، يطبق ذلك في بحثه لحقول المعرفة الدينية، وبالأخص الألفاظ التي وردت في النص الديني، فيقول:

 

فعلى هذا، الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة حاكية عن المعاني الخارجية، وإشارات وأمارات إليها أولاً وبالذات -سواء كانت من أسماء رب العزة جل ثناؤه، أو التي يشار بها إلى الحقائق النورية مثل العقل والشعور والعلم والقدرة والحياة، أو التي يشار بها إلى الأمور المظلمة التي من شأنها أن يعلم بالعلم أو إلى ثبوتها وكونها وبقائها- بخلاف المنتحلين للعلوم المصطلحة، فإن الألفاظ عندهم قوالب والمعاني والمرادات هي المتصورات[37].

 

ويشرح الميانجي هذه النظرية من خلال تقسيم الألفاظ التي لها خارج واقعي محسوس، أو ليس واقع محسوس بل هي منتزعة منه، لأنه سوف يواجه إشكالاً مهماً عند بحثه عن الألفاظ التي ليس لها مادة تنال بالحس، ومن ثم تواجه النظرية في تقسيمها المذكور تحدياً حقيقياً لإثبات صحة ما تذهب إليه، فيقول:

 

فعلى ما ذكرنا، الأعلام الشخصية -مثل زيد وعمرو- موضوعة للخارج بعينه، من حيث إنه شخص خارجي ويقابلها الألفاظ الموضوعة لتلك الأفراد والمصاديق من حيث ذات الجوهر الذي به امتياز هذا النوع من النوع الآخر، مثل إنسان وفرس وحمار، فبالحقيقة ملاك الشخصية لحاظ الشيء بمشخصاته الخارجية، ومع غمض العين عنها يكون اللفظ موضوعاً لهذا النوع الممتاز عن غيره[38].

 

ويولد هذا القول على إطلاقه إشكالات عديدة وكبيرة، أهمها ما تؤول إليه هذه النظرية عند البحث عن الألفاظ التي وضعت للخالق جلت قدرته، كلفظ الجلالة (الله) أو أسمائه الحسنى كالقدير والعظيم والجبار والمتكبر والقاهر والرحيم والرحمن والودود وغيرها، إذ هذه النظرية تقوم على الأركان التالية:

 

1- الوجود المادي الخارجي (الأعيان الخارجية).

 

2- أو ما يرجع لهذا الوجود المادي (ما يرتبط بالأعيان من عوارض أو غيرها).

 

3- الشعور والإحساس بهذا الوجود.

 

4- انتزاع المعاني ووضع الألفاظ لتلك المعاني المادية.

 

وهنا نلحظ أن هذه النظرية تواجه تحدياً كبيراً عند السؤال عن تطبيقها على ما يتعلق بالذات الإلهية من الأسماء والصفات، إذ لا يمكن القول بحال أن الله تعالى من الأعيان الخارجية التي يمكن أن تنال بالحس، وإذا سقط الركن الأول فلا يمكن أن تصمد هذه النظرية أبداً، لكن الميانجي ليخرج من هذه الإشكالية المهمة يقيد نظريته بهذا الاستثناء، أي أن النظرية فيما يتعلق بالله لا تحتاج إلى تصوره أو الإحاطة به، إذ ليس ذلك في مقدور البشر أصلاً، وما هذه الأسماء والتوصيفات إلا معانٍ وضعت للدلالة عليه، ويقرر ذلك بالقول:

 

فتحصَّل أن الألفاظ أمارات للخارج -كما أوضحنا- سيما في أسمائه تعالى الحسنى، ضرورة أنه لا معنى لتصوره تعالى كي يمكن وضع اللفظ في مقابل الأمر المتصور، وأما تصوره تعالى بالوجوه والعناوين، فتوصيف له تعالى بما لا يجوز توصيفه سبحانه به، فإنها أمر محدود متصور غير منطبق عليه تعالى، لأنها منتزعة من الخارج والأمر الانتزاعي تابع لمنشأ انتزاعه[39].

 

وكي يدلل الميانجي على ما يذهب إليه، يستدعي النص الديني، ليوضح قضية في غاية الأهمية وهي حقيقة منشأ أسماء الله تعالى، لتكتمل بذلك نظريته وليجيب عن ذلك التساؤل الملح الذي نشعر بأنه لم تكن الإجابة عليه مقنعة، لكنه من خلال هذا الاسترجاع للنص يسد تلك الثغرة التي كادت تطيح بمدخل البحث المعرفي عند مدرسة التفكيك.

 

روى الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن أسماء الله واشتقاقها: الله مما هو مشتق؟ قال، فقال لي: يا هشام الله مشتق من إله والإله يقتضي مألوها والاسم غير المسمى، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئاً، ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد أفهمت يا هشام؟ قال: فقلت : زدني قال (عليه السلام): إن لله تسعة وتسعين اسماً فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلهاً ولكن الله معنى يدل عليه بهذه الأسماء وكلها غيره، يا هشام الخبز اسم للمأكول والماء اسم للمشروب والثوب اسم للملبوس والنار اسم للمحرق أفهمت يا هشام فهماً تدفع به وتناضل به أعدائنا والمتخذين مع الله عز وجل غيره؟ قلت: نعم، قال: فقال: نفعك الله به وثبتك يا هشام، قال هشام فوالله ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا[40].

 

ويعلق الميانجي على هذا النص بقوله: «قد أفاد (عليه السلام) أن لفظ الجلالة -الله- ليس اسماً جامداً حاكياً عن الذات بلحاظ استجماعه جميع صفات الكمال، بل هو مثل غيره من أسمائه تعالى الحسنى، متكفل بمعناه الاشتقاقي شأناً خاصاً من شؤونه سبحانه، وهو حيث الإلهية له سبحانه الذي هو من أَجَلِّ شؤونه، وكل شؤونه جليلة».

 

ثم أفاد (عليه السلام) أن الاسم غير المسمى، والمسمى والمعنى هو الله -أي الذات المقدسة- وهذه الأسماء كلها تعبير عن الذات في مقام التمجيد والثناء والدعاء، وتحميد وتقديس، وفي مقام الإفهام والدعوة إلى الله[41].

 

والأمر المهم الذي ذكره الميانجي هنا هو أن هذه الألفاظ دالة على معنى الذات الإلهية ولكن ليس من حيث توصيفها التام لله سبحانه، وإنما هي ألفاظ وضعت للدلالة عليه والإشارة إليه، فبما أن الله سبحانه لا تحيط به الأوهام ولا تدركه العقول فلا يمكن أن نضع نحن من أنفسنا أسماء له تعالى، وبالتالي فإن مهمة التوصيف والتسمية موكولة إليه تعالى، وهو قد عرف نفسه بهذه الأسماء لندعوه ونبتهل إليه ونحمده ونشكره ونقدسه.

 

وعندما يقرر الميانجي كون الألفاظ إشارة إلى معانٍ حقيقية خارجية فإنه بذلك يؤسس لأصل مهم في بحث المعارف الدينية، وهو ضرورة الأخذ بظواهر الألفاظ ونفي مطلق التأويل، وترى مدرسة التفكيك بجميع رموزها أن تحريف الحقائق يبدأ من خلال إطلاق مبدأ تأويل ظواهر الألفاظ، وترى أن منهج الفلسفة والعرفان قد مارسا مبدأ التأويل لتصحيح ما يخالف النص الديني، فالحكيمي بعد أن يعرض مجموعة من النصوص الفلسفية التي مارس فيها كاتبوها مبدأ التأويل يخلص إلى نتيجة مهمة وهي أن الفلسفة لا يمكن صياغة رؤيتها إلا من خلال هذا المبدأ.

 

إن للتأويل دوراً كبيراً في إيجاد المدارس والاتجاهات الفلسفية ذات الطابع المزجي والتوفيقي، إذ من دون الإفادة من آلية التأويل تضحى عملية صياغة وبلورة مدرسة فكرية من هذا النمط أمراً غير ممكن، ومن هنا وبالذات يمكن أن نقف على الدور الكبير الذي أنيط بالتأويل باعتباره يشكل ضرورة ملحة بالنسبة إلى الفلسفة في مرحلة التكون والتأسيس نظراً للروافد الفكرية المتعددة التي تصب فيها إلى جانب الآيات القرآنية والأحاديث التي تفيد منها[42].

 

وبعد أن ينبه الحكيمي إلى خطر التأويل يقرر أن مسؤولية مدرسة التفكيك هو تنقية المعرفة الدينية من خلال تسليط الضوء على تلك التأويلات ومعالجتها في أطار عملية التأصيل فيقول: «نعني بالتفكيك هو أن يتصدى علماؤنا ومفكرونا لهذا السيل الجارف من التأويلات ومحاولات المزج والتهجين، والعمل على تأصيل المعرفة القرآنية والحقائق السماوية وعلوم الوحي وتنقيتها وصيانتها من الذوبان»[43].

 

3- الأخذ مباشرة من القرآن والسنة:

تبني مدرسة التفكيك أساس رؤيتها للمعارف على التفريق بينها، ويتجه مبدأ التفكيك ليقرر مبدأ الفصل بين منهج معرفة أصول الدين ومعرفة ما يتعلق بمتغيرات حياة الإنسان، ففي القسم الأول فإنه من الضرورة بمكان تحديد أولويات وآليات ومرجعية معرفية ليس بالضرورة أن تكون مهيمنة على القسم الآخر من المعارف.

ولقطع الصلة تماماً بين التداخل المنهجي والمرجعي في بحث المعارف الدينية الخالصة يؤسس التفكيكيون مقولاتهم على مبدأ التمايز التام بين العلوم الإلهية والعلوم البشرية، وكما رأينا عند الأصفهاني الذي بدأ كتابه (أبواب الهدى) بالتأسيس لقاعدة الفصل التام، ليس في النظر لنوعية الموضوعات وتعريف الحقائق فحسب، بل يذهب لأكثر من ذلك عندما يقرر الاختلاف والتمايز التام حتى فيما يتعلق بمدخل البحث المعرفي وهو مبحث الألفاظ، ليؤكد على الاختلاف في الأسس وليس فقط في اتجاهات التفكير.

 

وإذا كان التمايز بين المدرسة التفكيكية والمنهج الفلسفي لهذا الحد، فمن الطبيعي أن تختلف المرجعية الفكرية وتتمايز تماماً عن الفلسفة، وهذا بالضبط ما يؤكد عليه التفكيكيون في كل كتبهم ومؤلفاتهم، لكن هذا الأمر لا يعني في نظر التفكيكيين الانغلاق على معطيات الفكر الفلسفي، بل على العكس تماماً حيث يرى التفكيكيون ضرورة الانفتاح على فضاءات المعرفة البشرية لكونها ضرورية للتأكيد على التمايز والاختلاف، إذ من غير الممكن إقرار هذا المبدأ دون معرفة مع من نختلف وفي أي شيء تختلف النظرتان، ولهذا نجد التفكيكيين يتميزون بعمق وسعة الاطلاع على منجزات العقل البشري، بل ومعرفة كبيرة بالأديان والمذاهب المختلفة، كما يلاحظ ذلك في كتاب الشيخ مجتبى القزويني بيان الفرقان.

 

وبعد التأسيس لمبدأ التمايز التام بين المعرفة البشرية والعلوم الإلهية يقرر الأصفهاني مرجعية الكتاب والسنة لكونهما يمثلان العلوم الحديثة والجديدة المعصومة عن الخطأ والمتمايزة تماماً عن العلوم البشرية القديمة، لكنه يقرر مع هذه المرجعية أمراً طبع كل نتاج التفكيكيين وهو التأكيد على عقلانية النص، وكونه مؤسس على العقل والحكمة، يقول في كتابه الضخم (معارف القرآن) وهو يوضح هذه الحقيقة:

 

حيث إن القرآن المجيد مؤسس على العلم الإلهي وعلى العقل الذي هو حجة الله تعالى وعلى المعارف الإلهية، فهو حكمة وشفاء وموعظة وقول فصل وبرهان ونور، وحيث إنه يناقض العلوم البشرية ومعارفهم على وجه يظهر به ضلالتهم، فهو علم إلهي ومعارف ربانية، وحيث إنه كذلك فهو مما لا ريب فيه وهو كتاب مبين وآياته بينات ومبينات، وله الحمد كما هو أهله، وحيث إنه تذكرة إلى الحق القدوس العلي العظيم وإلى آياته وعلاماته التي هي أدلة بالذات على العزيز القدوس العلي عن الإدراك والمفهومية والمعقولية، بل أدلة على العظيم الذي هو الدال بالدليل تعالى شأنه بذلك، فقال عز من قائل: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ *هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ...﴾[44].

 

وبما أن القرآن الكريم مؤسس على العقل فإنه يكون بذلك أحد البراهين على حجيته ودليليته، إذ لا يمكن القول: إن إثبات حجية القرآن تعتمد على القرآن للزومه إلى الدور، الذي هو واضح البطلان، ويوضح هذا المبدأ آية الله الميرزا الشيخ حسن علي مرواريد في كتابه (تنبيهات حول المبدأ والمعاد) بقوله: لا بد في إثبات كل أمر من حجة وبرهان، كما تشير إليه الآيات الكريمة التالية:

 

- ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.

 

- ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾.

 

- ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ﴾.

 

- ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾.

 

- ﴿فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾.

 

- ﴿قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾.

 

- ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾.

 

وتلك الحجة والبرهان لا بد من أن تكون حجيتها ذاتية أو منتهية إليها، وإلا لزم الدور أو التسلسل، الباطلان، وألاَّ يثبت أمر، فإن إثبات صدق القضية في صغرى البرهان المصطلح أو كبراه الذي يتوقف عليه الإنتاج، إن لم يكن بحجة ذاتية أو منهية إليها، فإما أن ينتهي إلى نفس البرهان ويتوقف عليه فهو الدور، أو فتسلسل[45].

 

وعندما نتساءل عن الفرق بين دليل العقل الذي يعتبره التفكيكيون حجة وبرهاناً وبين الآليات العقلية في المنطق الأرسطي، فإن مرواريد يجيب بشكل صريح وواضح أن البرهان والحجة في الآيات المتقدمة هو عبارة عن كل ما يوضح الأمر، ويصح أن يحتج به، سواء كان مؤلفاً من القضايا أم لا، كالعقل والعلم، وكالنبي والإمام، والمعجزة، ومطلق الآيات التكوينية، فلا وجه لحمله على البرهان المصطلح بما له من تفصيل الشرائط.

 

فمتى قام أحد الأمور المذكورة مما يصح إطلاق الحجة والبرهان بمعناهما اللغوي عليه - وإن كان مجازاً من باب تسمية الجزء باسم الكل، وتسمية السبب باسم المسبب - فإنه يُكتفى به عقلاً وعرفاً، كما عليه السيرة العقلائية حتى من علماء المنطق والفلسفة، فإنهم كثيراً ما يعتمدون في إثبات مرامهم على ما يوضح المطلوب، أي على المنطق الارتكازي، من دون تكلف النظر إلى مباحث المنطق المصطلح[46].

 

ونلاحظ هنا أن مرواريد لم ينف مطلق الاعتماد على المنطق الأرسطي، بل نفى كون الحجة والبرهان فقط هو ما اصطلح عليه بالمنطق الذي يعتمد على آليات عديدة في الاستدلال، لكنه يعتبر تلك الأمور من مرتكزات العقل البشري، وليست من مختصات المنطق الأرسطي، وما كان كذلك فليس في الاعتماد عليه بأس.

 

لكن الذي يرفضه التفكيكيون هو القول أن فهم النص الديني يحتاج إلى آليات المنطق الأرسطي، إذ يعتبر الأصفهاني هذا الرأي بمثابة هدم لكل أبنية المعارف الدينية، ويؤدي إلى تأويل النص الديني، وخروجه في التفهيم عن طريقة العقلاء مما يؤدي إلى نقض الهدف من بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي النص التالي يوضح الاصفهاني هذه الرؤية، التي يشدد على رفضها:

 

وزعموا أن فهم مرادات الأئمة (عليهم السلام) متوقف على تعلم العلوم اليونانية، وهذا غير صحيح لأن حمل ألفاظ الكتاب والسنة على المعاني الاصطلاحية وتوقف هداية البشر على تعلمها بعد بداهة جهل عامة الأمة بتلك الاصطلاحات إلا قليلاً منهم مساوق لخروج كلام الله تعالى وكلام رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن طريقة العقلاء وإحالتهم تكميل الأمة إلى من يعلم الفلسفة اليونانية، وهذا نقض غرض البعثة وهدم آثار النبوة والرسالة، وهو ظلم دونه السيف والسنان[47].

 

آليات فهم النص الديني

 

عندما يرفض الأصفهاني آليات الفلسفة في فهم النص الديني، فإنه لا يترك المسألة دون وضع البديل الذي ينتزعه من النص ذاته، ولعل أهم الأمور التي ركز عليها مؤسسو مدرسة التفكيك هو بناء منهج فهم النص، لأنه كما قال الأصفهاني المدخل لتمايز العلوم الإلهية عن العلوم البشرية، وبالتأكيد يسعى الأصفهاني من خلال ذلك إلى إعادة صياغة وتشكيل العقل الشيعي ليبرز بذلك خصائصه التي أهمها، عدم انفكاك فهم القرآن عن تفسير المعصوم، ومعطيات العقل والعلم النوراني.

 

يحدد الأصفهاني آليات فهم النص الديني في كتابه (مصباح الهدى) الذي يخصصه لبحث علم أصول الفقه، وهو كتاب يحتاج إلى دراسة وتأمل لفهم رؤية هذه المدرسة بشكل أدق، ففي الأصل الرابع الذي يخصصه لبحث حجية الظواهر يذكر تلك الآليات التي سوف نوردها لنطلع على هاجسه الأكبر وهو ضرورة وضع حدود وضوابط المعرفة الدينية ليظهر بذلك التمايز بينها وبين الفكر الفلسفي، وهذه الآليات هي:

 

1- تجاوز مفاهيم وتعريفات وأصول الفلسفة وعدم إدخالها في فهم النص الديني:

 

يعتبر الاصفهاني علوم الفلسفة سداً وحجاباً يمنع العقل من الوصول إلى حقائق ومعارف الدين، ويعد إبعاد مفاهيم الفلسفة عن النص الديني من أهم الواجبات التي على الفقيه أن يلتزم بها، فإن من أوجب الواجبات للفقيه بل لمن أراد الاستفادة من الكتاب والسنة من حيث العلوم والمعارف، أو من حيث العقل وأحكامه وما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأحكام، هتك الحجاب المضروب على المعارف والعلوم الإلهية وهو سد عظيم جداً كما أوضحناه بنعمة الله تعالى في (أبواب الهدى) مصنوع من أصول الفلسفة[48].

 

2- الرجوع إلى أهل اللغة لفهم معاني وظلال المفردات اللغوية:

 

عندما يؤكد الأصفهاني على أهمية الرجوع لأهل اللغة، فإنه بذلك ينبه على أمر يدخل في مبحث فهم مرادات الشرع من الألفاظ، وهو بحث أصالة عدم النقل، أو ما يسمى بأصالة الثبات في اللغة، وهو أصل عقلائي يقوم على أساس ما يخيل لأبناء العرف، نتيجة للتجارب الشخصية - من استقرار اللغة وثباتها، فإن الثبات النسبي، والتطور البطيء للغة يوحي للأفراد الاعتياديين بفكرة عدم تغيرها وتطابق ظواهرها على مر الزمن، وهذا الإيحاء وإن كان خادعاً، ولكنه على أي حال إيحاء عام استقر بموجبه البناء العقلائي على إلغاء احتمال التغيير في الظهور باعتباره حالة استثنائية، نادرة تُنفى بالأصل، وبإمضاء الشارع للبناء المذكور نثبت شرعية أصالة عدم النقل، أو أصالة الثبات، ولا يعني الإمضاء تصويب الشارع للإيحاء المذكور، وإنما يعني من الناحية التشريعية جعله احتمال التطابق حجة ما لم يقم دليل على خلافه.

 

ولا شك أيضاً في أن المتشرعة الذين عاصروا المعصومين خلال أجيال عديدة طيلة قرنين ونصف من الزمان، كانت سيرتهم على العمل بأصالة عدم النقل، وعلى الاستناد في أواسط هذه الفترة وأواخرها إلى ما يرونه من ظواهر الكلام الصادر في بدايات تلك الفترة مع أنها كانت فترة حافلة بمختلف المؤثرات، والتجديدات الاجتماعية، والفكرية التي قد يتغير الظهور بموجبها، ولكن أصالة عدم النقل لا تجري فيما إذا علم بأصل التغير في الظهور أو الوضع[49].

 

وهنا يؤكد الأصفهاني أنه لا معنى لأصالة عدم النقل لأن الميزان ما هو المعنى من الألفاظ عند أهل اللغة في زمن الاستعمال لا السابق ولا اللاحق، ولزوم الرجوع في مفهومها التركيبي وظهوره إلى عرف أهل اللغة، ولا إشكال في عدم اختلاف ذلك، لأن تعيين ما هو الظاهر من الكلام بحسب عرف أهل كل لغة أسهل من كل شيء، فإذا أشار المتكلم بالألفاظ إلى المعاني تكون المفاهيم الإفرادية ظاهرة منها، وعند تمامية الكلام وكون المتكلم في مقام الإخبار والإنشاء ينعقد للكلام ظهور من حيث مفهومه التركيبي العرفي ومقصوديته ومراديته من الكلام بالذات وظهوره من الكلام نتيجة حجية الكلام وعلاميته لما هو الظاهر به، نظير ظهور كل ذي آية بآيته وحجية آياته عليه[50].

 

3- الرجوع إلى المعصوم وحده في فهم القرآن:

 

القرآن الكريم كتاب هداية ويمثل القمة في كل الحقول المعرفية، ويعتمد في أسلوبه على التعليم وإثارة العقول، فهو يوجه العقل البشري إلى تحصيل المعارف التي تؤهله ليكون خليفة لله، وقد مارس القرآن عبر أسلوبه التوجيهي وخطابه الإرشادي طريقة العرب في التخاطب، فلم يبتكر لغة ينفصل بها عن المحيط، نعم يعد أسلوبه البلاغي ومعارفه من دلائل إعجازه، فلا يستطيع البشر مهما أوتي من قوة وعلم وتقدم أن يأتي ولو بمثل آية من آيات القرآن الكريم، لكنه مع كل ذلك يستعمل آليات اللغة في مفرداتها، ويتميز في أسلوب استخدام تلك المفردات فيضعها في مواقعها الدقيقة جداً، بحيث تعبر كل كلمة عن ظلال معرفية عميقة ودقيقة من حيث استخدامها وكينونتها التركيبية.

 

وبما أن القرآن كتاب سماوي وهو موجه لعامة الناس وهو كذلك المعجزة التي تحدى بها المرسِلُ العربَ أن يأتوا بمثله، فإن ذلك يعني أن فهمه في متناول من وُجِّه الخطاب إليهم، إذ لا يمكن أن يأمر القرآن بالتدبر في آياته وفهم معانيه وهو بمثابة السر المغلق، وفي الوقت نفسه لا يمكننا مع إثبات كونه معجزة أن نطلق فهم كل الكتاب لكل الناس، ويرجع السبب في عدم فهم كافة الكتاب لأسباب عديدة وأهمها التالي:

 

أنه مؤسس في الكثير من آياته على القرائن المنفصلة:

 

الكلام عند العقلاء له ظاهر وباطن، لكن العقلاء يقولون بوجوب حمل الكلام على ظاهره، ويسمى هذا بحجية الظواهر، فلو قال زيد من الناس: رأيت أسداً؛ فإن ذلك يحمل على الظاهر وهو كونه يشير إلى الحيوان المفترس، فلا يصح أن نحمل كلامه على غير ذلك إلا إذا وجدت قرينة تصرف مراده عن ظاهره، وهذه القرينة تارة تكون متصلة بالكلام كأن يقول: يقرأ كتاباً، فنعرف أنه أراد رجلاً شجاعاً، وتارة لا تكون هناك قرينة متصلة بالكلام لتفسره وتخرجه عن ظاهره، ولكننا نحتمل وجود القرينة التي تصرف الكلام عن مراده الظاهري، وهنا كي نحكم بالظاهر لابد من البحث عن تلك القرينة.

 

ونحن عندما نقول: إن القرآن مؤسس على القرينة المنفصلة، فإن ذلك يعني عدم إمكانية حمل الكلام على ظاهره، إذ لابد من البحث حتى يتحصل العلم بعدم وجود قرينة منفصلة تصرفه عن الظاهر، فإذا علمنا بعدم وجود المخصصات أو المقيدات أو عرفنا الناسخ والمنسوخ والمحكم من المتشابه والخاص والعام ففي هذه الحالة يمكننا الحكم بالظاهر، لكن هذه القاعدة ليست مطلقة في كل كلام، بل هي منحصرة في التعليميات والإرشاديات، أما في مسألة الفتيا فإننا نحكم بالظاهر ولا يجب علينا الفحص عن وجود المخصص، لأن الفتيا مؤسسة على عدم التعويل بالفطرة على المخصصات والمقيدات، لأن المنفصل لا محالة معارض ومخالف لقبح التعويل على المنفصل فيها، فلا مجال لتوهم الكشف عن التعويل لأنه عين إثبات ارتكاب القبيح للمتكلم، وليس ديدن الأئمة (عليهم السلام) على التعويل في غير التعليمات ضرورة، فلو كان بناؤهم على التعويل في الفتيا لكان عليهم الإعلان العام لعامة الناس وإيجاب إبلاغ ذلك لكل متأخر[51].

 

وما دام القرآن في خطابه التعليمي والإرشادي مؤسس على وجود القرينة المنفصلة، فإن ذلك يقتضي البحث عنها، إذ لا يجوز للعاقل أن يستغني في كشف علوم القرآن وفهم مراداته وتأويله وتفسيره عمن يكون عنده قرينة منفصلة في آية من آياته، وهو المتحدي بذلك القرآن وعلومه، فيحكم بما هو الظاهر من الآيات عند أهل اللغة بأنه تمام المعنى والمقصود منه تعالى من تلك الآيات[52].

 

وبعد أن يؤكد الأصفهاني على أهمية البحث عن القرينة المنفصلة، يورد بعض الآيات ليدلل على ما يذهب إليه، إذ يقول: إن فهم تلك الآيات من خلال الظاهر والرجوع لأهل اللغة يوقع المتلقي في العديد من الإشكاليات المنهجية والموضوعية، إذ إن قسماً من القرآن ورد على سبيل الإطلاق والعموم ولا يمكن إثبات الأحكام فقط من خلال الرجوع للعمومات والمطلقات، لذا كان لابد من الرجوع إلى من نزل القرآن عليه، أو من أمر صاحب الرسالة بالرجوع إليه، وفي النص التالي يوضح الأصفهاني رؤيته التي يتشكل من خلالها وعي عامة المدرسة التفكيكية.

 

من الواضحات عند كل عاقل أن استكشاف المرادات من ظواهر الكلام متقوم بتمامية الكلام، وهو متقوم بإحراز عدم التعويل على البيان المنفصل في غير الفتيا التي يقبح التعويل فيها، فلو احتمل التعويل لحكمة لا ينعقد للكلام ظهور، وحجيته على المراد من الكلام فرع تمامية الكلام، وإحراز عدم التعويل، وهو منفي هنا، فلا موضوع لاستكشاف المراد والمقصود من الكلام الكذائي، ولهذا لابد في كشف علوم القرآن ومراداته من الرجوع إلى من عنده علم الكتاب[53].

 

لكن الأصفهاني بعد أن يؤكد لفهم القرآن الحكيم على أهمية الرجوع للمعصوم (عليه السلام) لأنه هو الذي ثبت بالحجة والبرهان امتلاكه الفهم الكامل والتام للقرآن، يبرز الأسباب التي تدعوه لهذا القول وقد تمثلت في أربعة هي:

 

1- أن القرآن كلام الله الذي نزله بلسان الألوهية، ولا يمكن أن نحيط نحن بمراد الله بتمامه، لكنه نزل كتابه هداية فلزم معرفته للاهتداء، ولازم ذلك كون علمه عند من نزل عليه، أو من علمه الله علم الكتاب.

 

2- أن القرآن أولاً وبالذات خطاب لمن أرسل به، وأمره بالقراءة والدعوة والإنذار والبشارة خصوصاً وعموماً.

 

3- أن القرآن نزل متدرجاً زماناً، ومتدرجاً في تفهيم تعاليمه، وذلك يقتضي صيرورته محكماً عند بعض ومتشابهاً عند بعض آخر.

 

4- أن من الحكمة الرجوع للعالم والمربي، وهو المعصوم (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل من الحكمة الرجوع للمعصوم (عليه السلام) حتى فيما يمكن الوصول إليه من الأحكام، لأن القرآن قائم على الهداية إلى «الخلافة الإلهية والولاية الربانية وإلى الحجة في كل زمان لحفظ الدين والدنيا، وتكميل عقول الناس وتربية نفوسهم، وحجة كذلك على ظلم الغاصبين الجاهلين بعلوم الكتاب، وهذا من أعظم الإحسان على أهل العالم»[54].

 

وبعد أن يذكر الأصفهاني رؤيته تلك يقوم بتأصيلها من خلال الرجوع للنص ليوظفه ليس في الاستدلال على أساس الفكرة بل ليدعم نظرته التفصيلية في معرفة القرآن وإدراك معانيه وأهم تلك النصوص هو النص الوارد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو نص مشهور وظفه الكثير من رواد مدرسة التفسير، وقد اعتمده الشيخ محمد بن الحسن بن علي الطوسي الملقب بشيخ الطائفة (385-460هـ/995-1067م) في تفسيره (التبيان الجامع لعلوم القرآن)، وفصل معاني القرآن الكريم انطلاقاً من هذا النص، وقد أقر رائد المدرسة الإخبارية المحدث البحراني بهذا التفصيل عند بحثه عن حجية ظواهر القرآن الكريم وقد اعتبر هذا الرأي للبحراني تحولاً في رؤية المدرسة الإخبارية لحجية الظواهر، إذ ذهب مؤسس هذه المدرسة الاسترابادي إلى نفي الحجية، ويأتي الأصفهاني ليؤكد على أهمية هذا التقسيم من خلال هذا النص المروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد شكل هذا النص مع الكثير من النصوص ملامح مدرسة التفسير عند أهل البيت (عليهم السلام)، والتي تميزت بالاعتدال والواقعية، وفي ما يلي نورد هذا النص:

 

جاء زنديق إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) مدعياً تناقض القرآن فأجابه أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلاً: «ثم إن الله جل ذكره بسعة رحمته، ورأفته بخلقه، وعلمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كتابه، قسَّم كلامه ثلاثة أقسام، فجعل قسماً منه يعرفه العالم والجاهل، وقسماً لا يعرفه إلا من صفا ذهنه، ولطف حسه، وصح تمييزه ممن شرح الله صدره للإسلام، وقسماً لا يعرفه إلا الله وأمناؤه الراسخون في العلم».

 

 وإنما فعل ذلك لئلا يدعي أهل الباطل من المستولين على ميراث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من علم الكتاب ما لم يجعله الله لهم، وليقودهم الاضطرار إلى الائتمار لمن ولاَّه أمرهم، فاستكبروا عن طاعته تعززاً وافتراءً على الله عز وجل واغتراراً بكثرة من ظاهرهم وعاونهم، وعاند الله جل اسمه ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).

 

فأما ما علمه الجاهل والعالم من فضل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من كتاب الله وهو قول الله سبحانه: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ ولهذه الآية ظاهر وباطن فالظاهر قوله: صَلُّوا عَلَيْهِ، والباطن قوله: وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، أي سلموا لمن وصاه واستخلفه عليكم فضله، وما عهد به إليه تسليماً، وهذا مما أخبرتك أنه لا يعلم تأويله إلا من لطف حسه، وصفا ذهنه، وصح تميزه. وكذلك قوله ﴿سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ﴾...إلخ[55].

 

4- الاعتماد على كاشفية العقل والعلم:

ما يميز مدرسة التفكيك هو التنظير الراقي حول معرفة العقل والعلم، حيث تولي هذه المدرسة أهمية كبيرة لهذا المبحث الذي يعدونه أهم البحوث المعرفية، لذا تراهم قبل الدخول في البحوث المعرفية الأخرى، يمهدون ببعض البحوث التي تشكل مدخلاً لوعي وفهم مقولاتهم فيم يخص المبدأ والمعاد والنبوة والولاية، ويشكل تعريف العقل والعلم أهم تلك البحوث الآلية التي توصلنا لفهم وإدراك مجمل النظم المعرفية لمدرسة التفكيك.

 

وبما أن العقل هو دليل الأدلة، فلابد من معرفته من خلال تنظير مدرسة التفكيك لنرى انعكاس التغاير الذي أسست أصوله هذه المدرسة في مبحث الألفاظ ومدى تأثير ذلك في تكوين وتأسيس كلياتها وأصولها ورؤيتها تجاه الفكر المختلف، ونعني بالتحديد الفكر الفلسفي الذي ناوأته هذه المدرسة منذ تأسسها.

 

العقل والكاشقية الذاتية:

 

تختلف مدرسة التفكيك عن غيرها من المدارس الفكرية التي ناوأت الفلسفة أنها كونت نظماً معرفية متكاملة في قبال الفلسفة، فلم يكن رفضها سلبياً، بل رأت أن من واجبها تحديد آليات البحث المعرفي، وتكوين رؤية شاملة لكل الأصول المعارفية، ولهذا يمكن أن نعد مدرسة التفكيك منظومة معرفية متكاملة سواء من ناحية البحث المعارفي أو البحث الفقهي أو البحث الأصولي، حيث تملك هذه المدرسة رؤية أصولية تتميز في بعض مفرداتها عن الفكر الأصولي المتداول في الحوزة العلمية، فقد أسس الأصفهاني كتابه: (المواهب السنية في المعاريض والتورية في كلمات الأئمة (عليهم السلام)) والمسمى كذلك (مصباح الهدى)، وقد أورد فيه رؤيته التي يرى فيها ضرورة تنقية الفكر الأصولي من المقولات الفلسفية التي أُدخلت فيه، ويعد هذا الكتاب أحد أهم المراجع لفهم رؤية التفكيك حول علم الأصول.

 

وفي بحث الآليات المعرفية يوضح الأصفهاني وغيره من رواد مدرسة التفكيك أهمية العقل في تكوين المعرفة الدينية الصحيحة، ليؤكد من خلال تنظيره هذا على أهميته في الفهم الصحيح للنص الديني لأن معرفة أساس تلك العلوم الجديدة الإلهية يكون على تذكير العقلاء بالعقل ليعرفوه، فإنهم يجدون المعقولات بالعقل وهم عن العقل غافلون وبه جاهلون وعنه مدبرون وبالمعقولات مشغولون، وبالمعقولات عن لقاء العقل محجوبون، فلابد من التذكر بنور العقل ليستكشفوا الحقائق بنور العقل لا بالنظريات إلى الضروريات، ويعرفوا أن المعقولات الضرورية مظلمة الذات واستكشاف الحقائق النورية أو الظلمانية بها عين الباطل، وطلب معرفة الله من هذا الطريق هو الضلال المبين[56].

 

ما هو العقل؟ وما هي وظائفه؟

 

لا تختلف تعريفات رواد التفكيك للعقل، لكن ما يلفت النظر هو التركيز الكبير على أهمية هذه التعريف في فهم المعارف الدينية وتمييز الحق من الباطل، فإذا انطلق المفكر في بحث المعارف انطلاقاً من وعي حقيقة العقل بالنظر التفكيكي فهو يسير بالاتجاه الصحيح في معرفة ما هو الحق، أما إذا جعل النظرة الفلسفية للعقل هي منطلقه فلا شك أنه سوف لن يصل إلى الحق أبداً، وفي سردنا لبعض تعريفات هذه المدرسة سوف تتضح هذه النظرة بشكل واضح.

 

يقول الأصفهاني: العقل الذي يشار إليه في العلوم الإلهية هو النور الظاهر بذاته لكل من هو واجد له، يظهر للإنسان به حسن الأفعال وقبحها ويعرف به الجزئيات[57].

 

ويقول الميانجي: أن العقل هو النور الصريح الذي أفاضه الله سبحانه على الأرواح الإنسانية، وهو الظاهر بذاته والمظهر لغيره وهو حجة إلهية معصوم بالذات ممتنع خطئه، وهو قوام حجية كل حجة، وهو ملاك التكليف والثواب والعقاب، وبه يجب الإيمان وما يترتب عليه وتصديق الأنبياء والإذعان بهم، وبه يميز الحق من الباطل والشر من الخير والرشد من الغي، وبه يعرف الحسن والقبيح، والجيد والردي، والواجبات والمحرمات الضرورية العقلية الذاتية ومكارم الأخلاق ومحاسنها ومساوي الأعمال ورذائلها[58].

 

أما مرواريد فيقول: «إن حقيقة العقل هي حقيقة العلم (وهو النور الظاهر بذاته المظهر لغيره)» والنور الحقيقي الكاشف للحقائق، والفرق إنما هو في المتعلق، بمعنى أن متعلق العلم إن كان هو الحسن والقبح الذاتيين لماهية الأفعال والخصال -ولو مع الإجمال في درجتهما- يعبر عنه بالعقل.

 

والمراد بالذاتي ما لا ينفك عن الشيء ولا يعلل بشيء ولا يختص حسنه أو قبحه بزمان دون زمان، أو عند طائفة دون طائفة، كحكم العقل بحسن الإحسان وقبح الظلم وسائر محاسن الأخلاق ومساويها، في الحسن والقبح الفعليين، وكحكمه بوجوب الإيمان والتصديق بما ثبت أنه من الله ومن حججه[59].

 

العقل هو النور الظاهر بذاته والمظهر لغيره، هذه خلاصة التعريفات عند المدرسة التفكيكية، ومن خلالها ندرك أن معرفة العقل لا تكون إلا عن طريق العقل وحده، ولا يمكن أن نعرفه بغيره، لأن كل ما سوى العقل والعلم فاقد للنورية غير قادر على المظهرية، وبما أن من وظائفه الكشف، فإن أول ما يكشفه هو ذاته، والفرق بينه وبين ما يكشفه من المعقولات هو كونه كاشفاً وغيره منكشفاً، فالاختلاف هنا بين العقل والمعقول هو اختلاف ذاتي ويعني ذلك استحالة الاتحاد بين العقل ومعقولاته، فلا يمكن أن يكون العقل محكوماً بصفات المعقول أو بأحكامه، لأن المعقول مظلم بالذات والعقل ذاته النور، وما ذاته النور مباين ذاتاً لما ذاته الظلام.

 

أما العقل عند الفلاسفة اليونانيين فهو فعلية النفس باستخراج النظريات من الضروريات وهي عين التصورات والتصديقات[60]، والعقل الهيولائي هو الاستعداد المحض لإدراك المعقولات وهي قوة محضة خالية عن الفعل، كما للأطفال... والعقل بالملكة هو علم بالضروريات واستعداد النفس بذلك لاكتساب النظريات، والعقل بالفعل هو أن تصير النظريات مخزونة عند قوة العاقلة بتكرار الاكتساب بحيث يحصل لها ملكة الاستحضار متى شاءت من غير تجشم كسب جديد، لكنها لا يشاهدها بالفعل، والعقل المستفاد هو أن تحضر عنده النظريات التي أدركها بحيث لا تغيب عنه[61].

 

من خلال هذه التعريفات للعقل عند التفكيكيين ومقارنتها بالتعريف الفلسفي للعقل يتضح وجود فروقات جوهرية في الرؤيتين، ومما لا شك سوف تنعكس مجمل تلك الفروقات لتلقي بظلالها وبشكل كبير في البحث حول الخالق وما يتعلق به، وكذا في بحث مسألة الرسالة والرسول والإمامة والمعاد، لتكون منظومة معرفية متناسقة، تعتمد على النص وترفض مبدأ الالتقاط الذي طبع كل بحوث الفلاسفة.

 

وينتقد الأصفهاني الرؤية الفلسفية للعقل ويرى أنها تشكل حجاباً يمنع من الوصول للحق ويزيد من الضلال والتيه، ونوجز أهم مؤاخذات الأصفهاني على النظرة الفلسفية في النقاط التالية:

 

1- الخلط بين العقل ومفاهيم أخرى كالتصورات والتصديقات، وإعتبارها عقلاً.

 

2- تنزيل المعقولات والمعلومات منزلة العقل، أي أنهم اعتبروا المعقول والمعلوم عقلاً.

 

3- أرادوا معرفة العقل بغيره، وبما أنه نور فهو كاشف لذاته، وما هو كاشف لذته يتأبى أن يكون منكشفاً بغيره، ولهذا تاه الفلاسفة عن معرفة العقل لأنه كلما زادت معقولاتهم وتصوراتهم وتصديقاتهم يكونون أحجب من نور العقل والعلم الحقيقي وأبعد من كشف الحقائق بالنور، وكلما زادت علمياتهم واشتد يقينهم يكون حجابهم أغلظ[62].

 

أما وظيفة العقل والعلم اللذين هما حجتان معصومان، فهو يتمثل في الكشف، وتتمثل كاشفية العقل في بعدين متعاكسين، أي الكشف عن الشيء ونقيضه، وهذا يعني أن كشفه ذو شمولية وعمومية، وأن كاشفيته للشيء عامة شاملة ويستدعي هذا الأمر كون كاشفيته للكلي بما هو كلي وبما له من مصاديق وجزئيات، وهو فرق جوهري في نظرة التفكيك بالنسبة للنظرة الفلسفية التي تحصر إدراك العقل للكليات فقط، أما الجزئيات فلا يدركها العقل حسب هذه النظرة.

 

وإذا عرفوا العقل والعلم الحقيقيين يعرفون بهما أن الطريق الحق والصراط المستقيم لمعرفة الحقائق النورية هو التوجه إلى النور ومعرفته به، ثم معرفة الحقائق المظلمة بالذات بهذا النور أولاً وبالذات بلا تصور وتعقل[63].

 

وهنا يورد الأصفهاني ما يقوم به العقل وهو:

 

1- بنور العقل ينكشف جهل الإنسان وبُعْده عن الصواب.

 

2- يكشف العقل للإنسان بُعده عن الاهتداء بنوره.

 

3- كشف وتبيان حقيقة التصورات والتصديقات.

 

4- بعد أن يكشف حقيقة تلك التصورات أو التصديقات ينفي كونها عقلاً.

 

5- يؤكد على أن طلب المعرفة عن طريق تلك التصورات والتصديقات مبعد عن الحق.

 

6- يكشف قبح سلوك هذا الطريق المعوج في معرفة الأمور ذات الأهمية الكبيرة، كمعرفة الله أو الرسول أو الإمام أو مسألة المعاد.

 

7- ويستنتج الأصفهاني بعد كل تلك المقدمات أن المعرفة الصحيحة تكون من خلال الاهتداء بنور العقل والعلم الحقيقي، لأن التذكر بهذا النور عين رفع حجاب الغفلة والجهالة عن عقول الناس التي هي حجة إلهية وعين إقامة الحجة وإحيائها وهو إخراج العقلاء من ظلمات أدلتهم اليقينية التي هي عين الظلمات إلى النور وإلى معرفة العقل بالعقل، وهو يوجب معرفتهم بأن الجهل والحجاب عن العقل هو غفلتهم، ويوجب معرفتهم بأن معرفة العقل بالعقل عين الحق الذي جاء به هذا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعرفتهم بالباطل الذي كانوا فيه من استكشاف المطالب بغير هذا النور، بل كانوا منغمرين في استخراج الظلمات من الظلمات الذي لا أمان لخطئه، ويوجب معرفتهم بصدق رسالة من يذكِّرهم بالعقل ليخرجهم من ظلمات أدلتهم إلى نور عقولهم الذي يميز الحق من الباطل ويوجب المعرفة باحتياجهم إلى المذكِّر[64].

 

وبالطبع لا يمكن فهم النص الديني إلا من خلال التوجه بنور العقل والعلم، وعندما يتوجه العقل للوحي تنفتح فضاءات المعرفة الإلهية أمامه فيصبح ذلك العقل أكثر قدرة على التشخيص والتنظير والاستنباط والحكم، وهنا تصل مدرسة التفكيك إلى أقصى درجات التنظير للعقل، عندما تجعله الدليل على صدق الأدلة، كالرسالة والرسول، ويعني ذلك استحالة فهم النص الديني بعيداً عن العقل، والتفكيكيون بهذا يتميزون من المدرسة الإخبارية التي تحفظت على كون العقل دليلاً على الحكم الشرعي، ويتميزون من المدرسة الأصولية التي استعارت المعنى الفلسفي للعقل وشرعت في الاعتماد على مدركاته كدليل يندرج ضمن أدلة الفقيه لمعرفة الحكم الشرعي.

 

أهم المؤاخذات على مدرسة التفكيك

 

واجه التفكيكيون نقداً شديداً ومتواصلاً من قبل الاتجاه الفلسفي أو المناصر له، ومع أن النقاد يسلمون بضرورة وأهمية المبدأ الأساس التي ترتكز عليه النظرة التفكيكية وهي الفصل بين المعرفة البشرية والمعرفة الإلهية، إلا أنهم يعتبرون هذا المبدأ لا يمكن تحققه، لأننا عندما نتوجه للنص فنحن نُعمِل عقولنا في فهمه، وقطعاً لا يمكن القول: إن هذا الفهم هو نظرة دقيقة ومعصومة وقراءة محايدة للنص، وهنا تكمن الإشكالية، فالنص متعالٍ عن الفهم المطلق، كما أنه لا يمكن أن ينحدر إلى مستوانا، لأننا نمارس عملية الفهم من خلال استدعاء مجمل التكوين المعرفي وهنا لا بد أن يصطبغ هذا الفهم بما نحمل من معارف ونظرات وتأملات كونية، وقطعاً لا يمكن القول: إننا يمكن أن نفهم النص من خلال إقصاء معارفنا وأفكارنا بكاملها لأن ذلك لا يمكن تحققه حتى في الخيال.

 

وعندما تُسقط المدرسة الفلسفية الأساس الذي ترتكز عليه مدرسة التفكيك، فلا يعد مهماً البحث في بقية الأبنية المعرفية، لأنها بطبيعة الحال إن كانت قائمة ومعتمدة على ذلك الأساس فهي بلا شك سوف تتهاوى معه، وإن لم تكن ترتكز عليه، فلا يعد الأمر كذلك مهماً لأن أساس النظرية وما إليه تدعو قد تبين هشاشته وضعفه، كما أنه لا يمكن الاعتماد على الفرع مع أصل غير أصيل.

 

رغم أن هذا الإشكال يعد قوياً في الظاهر إلا أنه يحمل عوامل ضعفه، وبالأخص إذا رجعنا للمعنى المقصود من التفكيك، حيث عرفه الحكيمي: «أنه التصدي للسيل الجارف من التأويلات ومحاولات المزج الهجين، والعمل على تأصيل المعرفة القرآنية والحقائق السماوية وعلوم الوحي وتنقيتها وصيانتها من الذوبان»[65].

 

وبالطبع الإشكال الذي وجهه مناصرو الفلسفة يمكن أن يرد على أصل الوحي، فإذا كان العقل البشري غير قادر على الفصل بين المسبقات الفكرية والآراء الذاتية وبين علوم ومعارف الدين، فإن ذلك قد يستبطن القبول بآراء المجتمع الجاهلي الذي نزل فيه الوحي، بناءً على أن العقل غير قادر على التمييز والفصل بين المعارف القرآنية وأفكار الناس وما يحملون من تأملات كونية وآراء استقوها من مصادر الكهانة أو العرافة أو حتى أهل الكتاب الذين حرفوا كلام الله.

 

ثم إن التفكيك كمنهج يضع الآليات التي يمكن أن تسهم في تنقية الفكر الديني من أفكار البشر من خلال رفضه منهج التأويل الذي يعد أهم أداة معرفية يمارس من خلالها الفلاسفة نفي التعارض بين معارف القرآن الكريم وبين ما تؤمن به الفلسفة من نظريات معرفية وعقدية، ويمكننا القول: إن أبرز الآليات التي يؤسس من خلالها التفكيكيون معارف نقية تكمن في التالي:

 

1- تعيين أطر وحدود الآراء والحقائق والمعارف، ويعد هذا أمراً مقدماً للوصول إلى تلك الآراء ضمن إطارها الطبيعي المرسوم لها.

 

2- رفض التأويل للنص الديني.

 

3- تجاوز مفاهيم وتعريفات وأصول الفلسفة وعدم إدخالها في فهم النص الديني.

 

4- الرجوع للمعصوم وحده في فهم النص الديني.

 

ويعتبر التفكيك مسؤولية تقع على عاتق العلماء كما أنها تشكل ضرورة علمية وواجباً عقلياً وشرعياً، وخدمة معرفية للتاريخ والإنسانية، وأهم ما يفترض بهؤلاء العلماء والمفكرين هو ألاَّ يخلطوا بين الحكمة القرآنية وبين كل من الفلسفة اليونانية والعرفان المأخوذ عن المدارس الاسكندرانية والهندية وغيرها، وذلك لصيانة هوية العلم القرآني والحفاظ على جوهر وحقيقة المعرفة القرآنية، والإبقاء على استقلالية المذهب المعرفي الذي يطرحه القرآن الكريم، وبذلك يتسنى لطلاب الحقيقة أن يستخلصوا رأي القرآن الكريم بلا تحوير أو تأويل أو مزج أو تحميل.

 

فمثلاً إذا كان هناك سؤال عن رأي القرآن الكريم بالذات حول المعاد وما يمكن أن نستفيده من القرآن في خصوص المعاد وقضاياه -بغض النظر عن كل الأفكار والآراء الأخرى التي وردتنا سواء التي تم تطويرها وأسلمتها أو التي بقيت على هيئتها السابقة. في مثل هذه الحالة لا بد من إجابة صريحة بأن يقال هذا هو رأي القرآن في خصوص المعاد من دون أي تأويل أو مزج، وبذلك نكون قد برهنَّا للآخرين على أصالة واستقلالية ومتانة القرآن في أطروحاته ومبانيه ومرتكزاته، وأن القرآن ليس بحاجة إلى النظم المعرفية المنتشرة هنا وهناك خارج دائرة الإسلام حتى نقوم بإدخالها ضمن الدائرة الإسلامية بعد مضي قرن أو قرنين أو ثلاثة قرون على نزول الوحي القرآني لتكون جزءاً من النظام المعرفي المتكامل للأمة الإسلامية.

 

القرآن الكريم ليس بحاجة إلى شخص ولا إلى نموذج أو أسلوب أو منهجية أو آلية أو تبرير ولا إلى فلسفة أو عرفان في أي من المجالات والمقولات وعلى الأصعدة كافة، فالطرح القرآني يختلف كل الاختلاف عن أطروحات الآخرين إذ إن المواضيع والحقائق التي يطرحها القرآن هي وحي منزل وكلام نور وأنى لمعطيات الفكر البشري ونتاج رياضات المرتاضين أن ترقى لمستوى الوحي المنزل[66].

 

الفروقات مع المدرسة الإخبارية

 

من الإشكالات التي وجهت إلى مدرسة التفكيك هو القول بأنها تجتر ذات مقولات المدرسة الإخبارية، بل وصفها البعض بأنها مدرسة إخبارية حديثة، ولعل السبب في وصفها بذلك هو التشابه في بعض المقولات والتي منها:

 

1- رفض معطيات الفلسفة والمنطق الإغريقي وآلياتهما في البحث المعرفي والفقهي.

 

2- رفض منهج تأويل النص الديني، والاعتماد على الظاهر القرآني.

 

3- القول بضرورة الرجوع للمعصوم في تفسير النص الديني.

 

لكن هذا الوصف للتفكيك بأنه إخبارية حديثة أو رجعية كما وصفها البعض الآخر، يجعلنا نتساءل عن فهم هؤلاء لكلا المدرستين، إذ يبدو هذا الأمر توصيفاً بعيداً جداً عن الواقع، فهناك بون شاسع بين المدرسة الإخبارية والتفكيك، فرغم اتفاق الإخبارية مع التفكيك في رفض المنهج الفلسفي الإغريقي، إلا أن مواضع الاختلاف كبيرة يمكننا أن نحدد أبرزها في النقاط التالية:

 

1- إيمان التفكيك المطلق بالعقل ومعطياته:

 

بخلاف الإخبارية التي رفضت الدليل العقلي، ولم يصرح بحجية الدليل العقلي إلا المحدث البحراني الذي قال بحجية العقل الفطري، لكن لم يقم بشرح معناه ولا المقصود منه مما جعل الكثير من أتباع المدرسة الأصولية يعتقدون أن الإخبارية لا تؤمن بالدليل العقلي، لكن المنصف والباحث المدقق يرى أنها تؤمن بالعقل لكن ليس لها تفسير محدد له بخلاف التفكيك الذين أسهبوا في شرح الدليل العقلي. ولعل أوضح تصريح يستشف منه الإيمان بالعقل كدليل هي مقولة البحراني في كتابه الأبرز الحدائق الناضرة حيث قال:

 

إن العقل الصحيح الفطري حجة من حجج الله سبحانه وسراج منير من جهته جل شأنه، وهو موافق للشرع، بل هو شرع من داخل كما إن ذلك شرع من خارجه، لكن ما لم تغيره غلبة الأوهام الفاسدة، وتتصرف فيه العصبية أو حب الجاه أو نحوهما من الأغراض الكاسدة، وهو قد يدرك الأشياء قبل ورود الشرع بها فيأتي الشرع مؤيداً له، وقد لا يدركها قبله ويخفى عليه الوجه فيها فيأتي الشرع كاشفاً له ومبيناً، وغاية ما تدل عليه هذه الأدلة مدح العقل الفطري الصحيح الخالي من شوائب الأوهام العاري من كدورات العصبية، وأنه بهذا المعنى حجة إلهية، لإداركه بصفاء نورانيته وأصل فطرته بعض الأمور التكليفية، وقبوله لما يجهل منها متى ورد عليه الشرع بها، وهو أعم من أن يكون بإدراكه ذلك أولاً أو قبوله لها ثانياً كما عرفت[67].

 

2- الاعتراف بالمنهج الأصولي في استنباط الأحكام:

 

يعتمد الفقهاء في استنباط الحكم الشرعي من الأدلة القطعية على مجموعة قواعد وأصول، وقد جمعت تلك الآليات فيما بعد وتطورت وعرفت باسم علم أصول الفقه، واستغل المحدث الاسترابادي (1033هـ/1623م) وهو مؤسس الإخبارية الحديثة حداثة علم الأصول للهجوم عليه وإثارة الرأي العام الشيعي ضده، لأن علم الأصول عند الإمامية نشأ بعد غيبة الإمام الثاني عشر (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفقهاء مدرستهم مضوا دون علم أصول ولم يكونوا بحاجة إليه، وما دام الفقهاء من تلامذة الأئمة (عليهم السلام) من قبيل زرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم، ومحمد بن أبي عمير، ويونس بن عبد الرحمن وغيرهم كانوا في غنى عن علم الأصول في فقههم، فلا ضرورة للتورط فيما لم يتورطوا فيه، ولا معنى للقول بتوقف الاستنباط والفقه على علم الأصول[68].

 

ولم يكن موقف الإخباريين من علم أصول الفقه منحصراً في مؤسس المدرسة الإخبارية الحديثة، بل هو موقف تواصل عند العديد من رموز هذه المدرسة التي أسهمت في تطوير الفقه الشيعي، فبعد الاسترابادي يأتي المحدث البحراني الذي يُعتبر أحد المجددين في الفقه والعلوم الدينية، ففي بحث حكم صلاة الجمعة في زمن الغيبة ينتقد رأي المدرسة الأصولية بالنسبة لحكم صلاة الجمعة ويرجع أحد أسباب عدم قولهم بالوجوب العيني هو تأثرهم بعلم أصول الفقه حيث يقول:

 

من الظاهر عند التأمل بعين الإنصاف وتجنب العصبية للمشهورات الموجبة للاعتسافات أن عد أصحابنا (رضي الله عنهم) الإجماع مدركاً إنما اقتفوا فيه العامة العمياء لاقتفائهم لهم في هذا العلم المسمى بعلم أصول الفقه وما اشتمل عليه من المسائل والأحكام والأبحاث وهذه المسألة من أمهات مسائله، ولو أن لهذا العلم من أصله أصلاً أصيلاً لخرج عنهم (عليهم السلام) ما يؤذن بذلك، إذ لا يخفى على من لاحظ الأخبار أنه لم يبق أمر من الأمور التي يجري عليها الإنسان في ورود أو صدور من أكل وشرب ونوم ونكاح وتزويج وخلاء وسفر وحضر ولبس ثياب ونحو ذلك إلا وقد خرجت الأخبار ببيان السنن فيه وكذا في الأحكام الشرعية نقيرها وقطميرها، فكيف غفلوا (عليهم السلام) عن هذا العلم مع أنه كما زعموه مشتمل على أصول الأحكام الشرعية فهو كالأساس لها لابتنائها عليه ورجوعها إليه. هذا، وعلماء العامة كالشافعي وغيره في زمانهم (عليهم السلام) كانوا عاكفين على هذه العلوم تصنيفاً وتأليفاً واستنباطاً للأحكام الشرعية بها وجميع ذلك معلوم للشيعة في تلك الأيام فكيف غفلوا عن السؤال منهم عن شيء من مسائله؟ ومع غفلة الشيعة كيف رضيت الأئمة (عليهم السلام) بذلك لهم ولم يهدوهم إليه ولم يوقفوهم عليه؟ مع كون مسائله أصولاً للأحكام كما زعمه أولئك الأعلام، ما هذا إلا عجب عجيب كما لا يخفى على الموفق المصيب[69].

 

أما رائد مدرسة التفكيك الميرزا الأصفهاني فهو كبقية الفقهاء عندما يبلغون مرحلة الاجتهاد فإنهم يبدؤون بتوضيح نظراتهم ونظرياتهم التي يعتمدون عليها في عملية فهم الحكم الشرعي واستنباطه، إذ يبدأ الفقيه عندما يبلغ تلك المرحلة بفتح درسه البحث الخارج، ليتوافد الطلاب لحضوره، فيلقي دورة كاملة في الفقه وأخرى في علم الأصول ليبين فيه ما يخالف أقرانه من الفقهاء وما يتفق فيه معهم.

 

وقد كتب الأصفهاني كتابه الذي أوضح فيه نظرته الأصولية وأسماه (مصباح الهدى في أصول الفقه)، وقد بدأ كتابه بالرد على الرأي الإخباري المنتقد لعلم الأصول حيث قال: وأما سر بسط علم الأصول من فقهائنا (رضي الله عنهم) فأساسه البلية العظمى التي حدثت في الإسلام بعد ترويج الخلفاء وعلمائهم الذين كانت علومهم مؤسسة على الأفكار والأبحاث في جميع جهات الدين، واشتدت البلية بعد ترجمة الفلسفة وانتشار العرفان واختلاط علوم الدين بهما وترويجهما ونشرهما في البلاد، وهذا الذي أوجب الجهالة على الناس وأظلم نور علوم الإسلام وأورث الجهالة بالعقل وأحكامه، وانقلاب الفطرة الدينية فضلاً عن العقلائية ومباني الأحكام الإلهية، فصار علماء العامة باستمدادهم تلك العلوم مشككين في كل باب، وأوردوا الشبهات والموهومات في كل أمر، كما صرح بذلك أعظم أركان الدين بعد الأئمة المعصومين (عليهم السلام) الشيخ الكليني في أول الكافي، فأوجب هذه السياسة توهم الإجمال والاختلاف في الكتاب والسنة وجميع الروايات في جميع الأبواب ولم يبق أمر عقلي أو فطري أو عقلائي إلا صار نظرياً.

 

وقد صعب استنباط الأحكام من الروايات فقام أجلاء الأصحاب وكبار فقهائنا العظام لحفظ الدين ودفع هذا البلاء العظيم واجتهدوا في مقام دفع الشبهات والتشكيكات والأوهام التي سموها بالبرهان أو بالمكاشفة والعيان فوقعوا (عليهم السلام) في مشقة عظيمة في قبال تلك السياسة فدونوا علم أصول الأحكام ومبانيها وما يتوقف عليه مجدين في دفع شبهات العامة وأوهامهم على حسب علومهم واصطلاحاتهم، ونفس هذا الاختلاط الحاصل في علوم الإسلام أوجب بسط علم الأصول، وأوجب تلك الاختلافات مع أن الفقاهة ذات درجات، إلى أن انتهت الرئاسة إلى شيخ المشايخ العظام الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) فلخصه وهذبه فجزاه الله تعالى عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، فليس علم الأصول إلا ما يتوقف عليه التفقه والاستنباط، ولذلك سمينا المكتوبات (بمصباح الهدى) مقدمة لما نكتب إن شاء الله تعالى في الشرائع الإلهية في (الجنات الرضوية)، فظهر بحمد الله كمال الاحتياج لتعلم أصول الفقه، وبدون ذلك يمتنع استنباط الأحكام من الكتاب والسنة، وليس جمعها وتدوينها وتعليمها وتعلمها بدعة ولا اقتباساً من أصول العامة[70].

 

هنا يقف الميرزا الأصفهاني وهو مؤسس المدرسة التفكيكية في مواجهة مع الرأي الذي يذهب إليه الإخباريون القائل: إن الاعتماد على علم أصول الفقه بدعة، ويمكن ملاحظة هذا النص الذي يبدأ به الأصفهاني من ناحية كونه يؤسس لنقد واسع سوف يمارسه في ثنايا كتابه ليؤكد على أهمية علم أصول الفقه، إلى الحد الذي يعتبر وجودة ضرورياً لتحقق عملية الاستنباط إذ بدونه كما يقول لا يمكن استنباط الأحكام، وبالطبع يُعد هذا الرأي مناقضاً تماماً لأسس الفكر الإخباري، فلا يمكن بعد ذلك التأسيس لمقارنة بين المدرستين لكونهما يختلفان في الأسس الفكرية وليس في الفروع.

 

3- إمكانية فهم الظاهر القرآني:

 

هناك اختلاف منهجي بين رؤية المدرستين الإخبارية والتفكيك، فرغم أن الأصفهاني يرى ضرورة الرجوع للمعصوم في فهم المعنى التام للقرآن الكريم باعتبار أن كتاب الله مؤسس على وجود القرائن المنفصلة، كوجود الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيد والمحكم والمتشابه، إلا أنه يرى إمكانية الوصول لقسم من معاني القرآن كما تبين فيما ذكرنا في بحث مسألة الرجوع للمعصوم في فهم القرآن، وذكرنا أن رائد الاعتدال في المدرسة الإخبارية قال كذلك بالتفصيل بالنسبة لفهم معاني آيات الكتاب، لكن مؤسس الإخبارية الحديثة يختلف مع من جاء بعده في قطعه بالرأي الذي يزعم عدم إمكانية فهم معاني القرآن الكريم.

 

ففي كتابه المهم (الفوائد المدنية) يذكر الاسترابادي رأيه بصراحة ليؤكد من خلاله على ضرورة الرجوع التام في فهم كل القرآن للمعصوم حيث يقول: «الصواب عندي مذهب قدمائنا الإخباريين وطريقتهم، أما مذهبهم فهو أن كل ما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة عليه دلالة قطعية من قبله تعالى حتى ارش الخدش وان كثيرا مما جاء به(صلى الله عليه وآله وسلم) من الأحكام ومما يتعلق بكتاب الله وسنة نبيه(صلى الله عليه وآله وسلم) من نسخ وتقييد وتخصيص وتأويل مخزون عند العترة الطاهرة(عليهم السلام) وأن القرآن في الأكثر ورد على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعية وكذلك كثير من السنن النبوية، وأنه لا سبيل لنا فيما لا نعلمه من الأحكام النظرية الشرعية أصلية كانت أو فرعية إلا السماع من الصادقين(عليهم السلام) وأنه لا يجوز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر كتاب الله ولا ظواهر السنن النبوية، ما لم يعلم أحوالهما من جهة أهل الذكر (عليهم السلام)» [71].

 

4- القول بضرورة البحث لتمييز صحة الأخبار وعدم القول بقطعية الكتب الأربعة:

 

يعتبر القول بصحة جميع ما في الكتب الأربعة من الآراء المعروفة والمشهورة لدى المدرسة الإخبارية، ولا يكاد يخلو كتاب فقهي لعلم من أعلام هذه المدرسة العريقة إلا ويذكر الرأي ليؤكده من خلال سرد الأدلة ليس على كونه الرأي الصحيح فقط، بل ليؤكد كونه الرأي الذي سار على الإيمان به عظماء الفقهاء من أتباع أهل البيت(عليهم السلام) كالكليني (ت 329هـ/941م) والصدوق (306-381هـ/918-991م) والشيخ الطوسي (385-460هـ/995-1067م) والشهيد الأول (734-786هـ/1333-1384م) والشهيد الثاني (959-1011هـ/1552-1602م) والشيخ البهائي (953-1031هـ/1547-1622م) وغيرهم من أعلام مدرسة الوحي والإمامة، كما نلحظ ذلك عند المحدث البحراني في كتابه الحدائق حيث يورد في المقدمة الثانية مجموعة من النصوص من كتب هؤلاء الأعلام ليوظفها في تأكيد القول بصحة جميع ما في الكتب الأربعة.

 

كما أن الاسترابادي في كتابه الفوائد المدنية يورد اثني عشر دليلاً على هذا الرأي، ويقوم كذلك باستدعاء مجموعة من نصوص كبار الفقهاء ليدلل على رأيه، بخلاف الاصفهاني الذي يلتزم تنويع النص الديني النبوي والإمامي إلى الأربعة المشهورة، وهي الصحيح والموثق والحسن والضعيف، وبالتأكيد يعد القول بصحة الكتب الأربعة أو كما ذهب إليه البحراني صحة جميع ما في كتب الأصحاب أحد الأصول الفكرية التي تُميز المدرسة الإخبارية عن غيرها من المدارس الفقهية الأخرى داخل الفكر الشيعي.

 

ما يميز هذه المدرسة من غيرها من المدارس الفكرية

 

من كل ما سبق من السرد والتحليل الموجز لفكر وتاريخ مدرسة التفكيك، يتضح أن هذه المدرسة تفردت بالعديد من السمات التي ميزت منهجيتها والتي تبدَّى من خلالها قدرتها على فهم وتحليل الخطاب الديني بعيداً عن المؤثرات والمسبقات الفكرية، وبدأ حضور هذه المدرسة يأخذ مساراً متصاعداً يستدعي منا قراءة واسعة لهذه المدرسة التي تحمل هدفاً مقدساً يتمثل في تخليص العقل الشيعي من تأثره بالموروث الفلسفي وإعطاء رؤية نقية لرأي الوحي في موضوعات المعرفة العقدية، بل مجمل منظومة المعرفة الدينية والإنسانية المؤثرة، لذا يمكننا القول: إن هذه المدرسة تميزت عن بقية مدارس المعرفة داخل العقل الشيعي بالعديد من السمات نودرها في المسرد التالي دون أن نعلق عليها على أمل أن نجد فرصة في المستقبل لتسليط الضوء أكثر عليها:

 

1- التفكيك وفك الترابط بين منطوق النص وفهم البشر.

 

2- تأسيس خطاب معرفي خالص من التأثير الفلسفي.

 

3- النزعة الحسية، إذ تعتبر الواقع منطلق التعريف للألفاظ، الروح ليست مجردة، وكذا النفس.

 

4- النزعة التجريدية. نور العقل نور العلم...

 

5- تأصل النزعة العقلانية في كافة فروع البحث المعرفي.

 

6- أصالة ظواهر الألفاظ.ورفض منهج التأويل المطلق.

 

7- التأسيس المنهجي لمنطق إسلامي ورفض الإيمان بإطلاقية المنطق الأرسطي.

 

8- رفض معطيات الفلسفة اليونانية وبالأخص في مجال البحث العقائدي.

 

الهوامش:

 

[1] حكيمي، محمد رضا، المدرسة التفكيكية، ص31.

 

[2] المجلسي، محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار، ج1 ص6.

 

[3] المصدر السابق، ص4.

 

[4] المدرسة التفكيكية، مصدر سابق، ص11.

 

[5] المصدر السابق، ص153/154.

 

[6] الكليني، المحدث محمد بن يعقوب، الكافي، ج1 ص5.

 

[7] المصدر السابق، ص7.

 

[8] يورد آية الله العظمى السيد علي الخامنئي(دام ظله) في سيرته الذاتية تتلمذه على أحد تلامذة الميرزا الإصفهاني، وهو آية الله الميرزا جواد التبريزي (قدس سره) الذي يعد من أبرز تلامذة الشيخ الميرزا مهدي الأصفهاني البارزين، والذي تبنى بكل قوة رؤية المدرسة التفكيكية وقام بنقد واسع للفلسفة، وهنا يقول آية الله العظمى السيد الخامنئي(دام ظله) في سيرته الذاتية: «وحضرت درس الفلسفة عند آية الله الميرزا جواد الطهراني».راجع الموقع الإلكتروني:

 

http://www.al-imam.org/pages/nobtha/nobtha.html

 

[9] تعد مدرسة خراسان من المدارس العريقة التي يبرز تأثيرها بشكل واضح في النتاج الثقافي والمعرفي للحوزة العلمية، فقد كانت مشهد المقدسة لما تمثله من ثقل ديني وروحي مقصداً مهماً لطلبة العلم، وكان أحد العلماء الذين تأثروا بالأجواء العلمية في خراسان وبالأخص منهج الاصفهاني في المعارف هو آية الله العظمى المرجع الديني السيد علي السيستاني (دام ظله)، فقد تتلمذ عند مؤسس المدرسة التفكيكية وتأثر بآرائه بشكل واضح، ويقول كاتب سيرته في الموقع الإلكتروني الرسمي للمرجع السيستاني عند حديثه عند أساتذته: وقرأ شوارق الإلهام عند المرحوم الشيخ مجتبي القزويني، وحضر في المعارف الإلهية دروس العلامة المرحوم الميرزا مهدي الاصفهاني المتوفى أواخر سنة (1365 هـ.ق).

 

ويقول كاتب سيرة السيد السيستاني في ذات الموقع عند حديثه عن منهج البحث والتدريس عند المرجع السيستاني، أنه يورد آراءً متعددة مما يثري البحث ويعطيه عمقاً ومن الآراء التي يوردها آراء أستاذه الميرزا الإصفهاني(قدس سره) مؤسس المدرسة التفكيكية، فتحت عنوان المقارنة بين المدارس المختلفة يورد كاتب السيرة ما يلي: «إن المعروف عن كثير من الأساتذة حصر البحث في مدرسة معينة أو اتجاه خاص، ولكن سماحة آية الله العظمي السيد السيستاني (دام ظله) يقارن بحثه بين فكر مدرسة مشهد وفكر مدرسة قم وفكر مدرسة النجف، فهو يطرح آراء الميرزا مهدي الإصفهاني (قدس سره) من علماء مشهد، وآراء السيد البروجردي (قدس سره) كتعبير عن فكر مدرسة قم، وآراء المحققين الثلاثة والسيد الخوئي (قدس سره) والشيخ حسين الحلي (قدس سره) كمثال لمدرسة النجف، وتعدد الاتجاهات هذه يوسع أمامنا زوايا البحث والرؤية الواضحة لواقع المطلب العلمي». راجع الموقع الالكتروني:

 

http://www.sistani.org

 

[10] يجمع كاتبوا سيرة آية الله العظمى الشيخ حسين الوحيد الخراساني(دام ظله) أنه أحد تلامذة الميرزا الإصفهاني مؤسس المدرسة التفكيكية التي تتبنى نقد المدرسة الفلسفية، ويلاحظ على نتاج الشيخ الفقهي والمعرفي تأثره العميق بهذه المدرسة.

 

راجع سيرة الشيخ على الموقع الإلكتروني التالي:

 

http://albaqee3.net/marajea/5.htm

 

[11] راجع البصائر، عدد 27- السنة الرابعة عشر ربيع 1424هـ 2003م، حوار مع الإمام الشيرازي (قدس سره) تحت عنوان (الحوزة والأمة ومستقبل فلسطين).

 

[12] حديث الثقلين وإبراز مصادره.

 

[13] الشاهرودي، الشيخ علي النمازي، مستدرك سفينة البحار، ج1 ص9/11.

 

[14] المدرسة التفكيكية، ص22/23.

 

[15] الطهراني، الشيخ جواد، ميزان المطالب، الطبعة الثانية ج2 ص15.

 

[16] المظفر، محمد رضا المظفر، المنطق ص15.

 

[17] الحلي، الحسن بن المطهر، النافع يوم المحشر ص37.

 

[18] القرآن الكريم، سورة الأنعام آية 73.

 

[19] القرآن الكريم، سورة التوبة آية 94.

 

[20] القرآن الكريم، سورة سبأ آية 3.

 

[21] القرآن الكريم، سورة الزمر آية 46.

 

[22] القرآن الكريم، سورة الحشر آية 22.

 

[23] القرآن الكريم، سورة الجمعة آية 8.

 

[24] القرآن الكريم، سورة البقرة آية 77.

 

[25] القرآن الكريم، سورة البقرة آية 255.

 

[26] القرآن الكريم، سورة ألأنعام آية 3.

 

[27] القرآن الكريم، سورة الأنعام آية 59.

 

[28] توحيد الإمامية، مصدر سابق ص261.

 

[29] توحيد الصدوق، ص136.

 

[30] المصدر السابق.

 

[31] المصدر السابق، ص43.

 

[32] توحيد الإمامية، ص274/275.

 

[33] المصدر السابق، ص276.

 

[34] المصدر السابق، ص277.

 

[35] المصدر نفسه، ص53.

 

[36] الأصفهاني، الميرزا مهدي، كتاب أبواب الهدى - مخطوط ، ص12.

 

[37] المصدر السابق، ص54.

 

[38] نفس المصدر، ص54.

 

[39] المصدر نفسه، ص54/55.

 

[40] الكافي، ج1 ص87.

 

[41] توحيد الإمامية، ص56.

 

[42] المدرسة التفكيكية. مصدر سابق ص35.

 

[43] المصدر السابق، ص40.

 

[44] الأصفهاني، آية الله الشيخ الميرزا مهدي، معارف القرآن، ص86. تكملة الآية: ﴿يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ [53] سورة الأعراف.

 

[45] مرواريد، آية الله الميرزا الشيخ حسن علي، تنبيهات حول المبدأ والمعاد، ص12.

 

[46] المصدر السابق، ص12/13.

 

[47] أبواب الهدى، مصدر سابق ص4.

 

[48] الأصفهاني، آية الله العظمى ميرزا مهدي، مصباح الهدى، - مخطوط ، ص22.

 

[49] الصدر، الشهيد آية الله العظمى السيد محمد باقر، دروس في علم الأصول، ج2 ص166.

 

[50] مصباح الهدى- مخطوط ، ص26/27.

 

[51] مصباح الهدى، مصدر سابق، ص29، بتصرف.

 

[52] المصدر نفسه، ص31.

 

[53] المصدر نفسه، ص32.

 

[54] المصدر نفسه، ص34.

 

[55] مصباح الهدى- مخطوط ، ص35.

 

[56] أبواب الهدى- مخطوط ، 64/65.

 

[57] أبواب الهدى- مخطوط ، ص14.

 

[58] توحيد الإمامية، ص21.

 

[59] تنبيهات حول المبدأ والمعاد، ص32/33.

 

[60] أبواب الهدى- مخطوط ، ص68.

 

[61] توحيد الإمامية، ص37.

 

[62] أبواب الهدى - مخطوط، ص68.

 

[63] أبواب الهدى- مخطوط ، ص69.

 

[64] مصباح الهدى- مخطوط ، ص66/67.

 

[65] المدرسة التفكيكية، ص40.

 

[66] المصدر السابق، ص40/41.

 

[67] البحراني، المحدث الشيخ يوسف، الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، ج1 ص131.

 

[68] الغروي، محمد عبد الحسين محسن، مصادر الاستنباط بين الأصوليين والإخباريين، ص71.

 

[69] الحدائق الناضرة، ج9 ص333.

 

[70] مصباح الهدى- مخطوط ، ص3/4.

 

[71] الإسترأبادي، محمد أمين، الفوائد المدنية ص47.