اقتصاد مفتوح ... مجتمع مغلق !!

 

 

 

جورج داونز - بروس بينو دي مسكيتا  

 

 

الحاكم المستبد الذي يسمح بالحريات ينقص فرص بقائه لسنة اخرى بنسبة تصل إلى 20%.  

عندما قام دينغ جياؤبنغ بفتح اقتصاد الصين قبل أكثر من 25 عاماً، كان الرأي السائد في الغرب هو أن إصلاحاته تشكل إشارة على بداية النهاية بالنسبة للحكم الأوتوقراطي في البلاد.

ان الاعتقاد السائد في ذلك الوقت، وحتى الآن، هو أن تحرير الأسواق هو أول خطوة باتجاه الديمقراطية، لأن الانفتاح الاقتصادي يقود إلى ظهور الطبقة الوسطى المثقفة وذات العقلية التجارية، وهذه الطبقة مع الوقت سوف تطالب بالمزيد والمزيد من السيطرة على مصيرها.

لكن شيئاً ما حصل خطأ في الصين، وروسيا وغيرها من الدول التي كانت تحكمها حكومات استبدادية قامت بتخفيف قبضتها عن الاقتصاد. فقد حصل النمو الاقتصاددي لكن الديمقراطية اللبرالية لا تزال غائبة عن الأنظار.

السبب بسيط لكنه مزعج: هناك جيل جديد مثقف من المستبدين وتوصلوا إلى استراتيجية تمكنهم من التمتع بمزايا النمو الاقتصادي وفي الوقت نفسه تأجيل ظهور ديمقراطية منافسة حقيقية، وغالباً يتمكنون من تأجيلها على مدى عقود.  

لكي نفهم كيفية عمل هذه الاستراتيجية قد يفيدنا أولاً أن نفهم كيفية ظهور المنافسة السياسية.

للحصول على قوة سياسية فعالة سيكون على المواطنين المشاركة في عملية "تنسيق استراتيجي":

أي نشاطات مثل نشرالمعلومات وتنظيم الأحزاب وضم الناس إليها، اختيار القادة، جمع التمويل، وعقد الاجتماعات والمظاهرات. 

عادة كان من المعتقد أن النمو الاقتصادي يساعد على الدمقرطة من خلال تسهيل عملية التنسيق المذكورة،خاصة مع تطور وسائل الاتصالات وتنوع الإعلام وزيادة ثقافة السكان.

لكن في السنوات الأخيرة عرفت بعض الأنظمة الذكية كيف تفصل بين النمو الاقتصادي وبين التنسيق الاستراتيجي، وبذلك سمحت بحصول الأول دون أن تقلق تجاه الثاني.  

السر في هذا يكمن في التقنين الحذر للمنتجات التي تسهل عملية التنسيق الاستراتيجي،وفي الوقت نفسه الاستثمار في منتجات أخرى تكون ضرورية لتحقيق النمو الاقتصادي.

"منتجات التنسيق" التي تسبب القلق لهذه الأنظمة تتمثل في الحقوق المدنية والسياسية، حرية الصحافة، والحصول على التعليم العالي، أما "المنتجات العامة القياسية" فتشمل النقل العام، التعليم الابتدائي والثانوي، الصحة العامة، وكلها تساهم في عملية النمو الاقتصادي وهي نسبياً لا تشكل تهديداً للنظام.

لننظر إلى أمثلة حول كيفية تقييد المستبدين لمنتجات التنسيق:

انظر مثلاً إلى تاريخ الصين الطويل في منع الدخول إلى الإنترنت وغيرها من وسائل الإعلام. أو في روسيا حيث قام الرئيس بوتين بوضع جميع شبكات التلفزة الوطنية تحت رقابة حكومية صارمة ومنع انتخاب رؤساء المناطق.

أو في فنزويلا حيث قام الرئيس شافيز العام الماضي بسن قانون يسمح له بمنع أي تقرير أخباري أو احتجاج عنيف وسحب ترخيص أي وسيلة إعلام تنتهك القائمة الطويلة من الممنوعات.

لكن إلى أي مدى تنجح هذه الاستراتيجية في قمع منتجات التنسيق؟

لقد قمنا مؤخراً بدراسة شروط كل من منتجات التنسيق والمنتجات العامة القياسية في 150 بلداً خلال الفترة من1970 إلى 1999، وكان هناك العديد من النتائج المثيرة للاهتمام:  

أولاً:

قمع منتجات التنسيق يبقي المستبدين في السلطة . الحاكم المستبد الذي يسمح بحرية الصحافة و الحريات المدنية ينقص فرص بقائه لسنة أخرى بمقدار حوالي 15 إلى 20%.

ثانياً:

الحكام المستبدون اليوم يميلون إلى قمع منتجات التنسيق بشكل مستمر أكثر مما يفعلون تجاه غيرها من المنتجات العامة القياسية. بعض الطغاة القديمي الطراز في أفريقيا ما يزالون يقمعون جميع البضائع العامة، لكن هناك نسبة متزايدة من أنظمة العالم الاستبدادية بدأت تتبنى أسلوباً أكثر تقدماً في الاستبداد.  

ثالثاً:

كلما كان القمع الممارس على منتجات التنسيق في بلد ما أكبر، كلما زاد الفارق الزمني بين تحقيق النمو الاقتصادي وبين ظهور اللبرالية الديمقراطية.  

ما الذي يجب على الحكومات الغربية أن تفعله بهذه النتائج؟

أولاً :

يجب أن يدركوا بأن ازدهار النمو الاقتصادي ليس وسيلة فعالة لنشر الديمقراطية كما كان يعتقد في السابق.

إن النخبة المستبدة تستطيع من خلال تقييد منتجات التنسيق الحصول على كل ما تريده:

شريحة راضية من الناخبين الأغنياء المستفيدين من النمو الاقتصادي، العديد من الموارد التي تمكنها من امتصاص أي صدمة سياسية أو اقتصادية، ومعارضة سياسية ضعيفة وخائفة.

ثانياً :

يجب أن يقوم البنك العالمي وغيره من المنظمات المانحة بتوسيع مجموعة الشروط التي يلحقونها بالقروضالممنوحة للدول النامية، والبدء بمطالبة الدولة المستلمة بزيادة الحريات المدنية الأساسية، الحقوق السياسيةومنتجات التنسيق الأخرى.

ان هذا لا يعني انقاص التركيز على النمو الاقتصادي أو على شروط المنتجات القياسيةالعامة. فكلا المنتجين هو شرط ضروري لتحقيق الديمقراطية الحقيقية.

ثالثا :

درس يتعلق بالشرق الأوسط، وهو يتمثل في إعادة النظر في مظاهر الانتخابات في العراق، انسحاب سوريا من لبنان والانتخابات التالية لها، اعلان اجراء الانتخابات المحلية في السعودية، والوعد باجراء انتخابات تنافسية في مصر.

هذه المظاهر كانت تعتبر دليلاً على بزوغ فجر ديمقراطية جديدة في المنطقة، ولكن هذا غير صحيح.

هذه الإصلاحات الهيكلية في دول استبدادية أميل إلى كونها رمزية من كونها حقيقية.  

بالنسبة للسياسيين المهتمين بشكل حقيقي في قياس مدى التقدم الديمقراطي في المنطقة عليهم أن يركزوا على مدى .

توفر منتجات التنسيق:

على عدد وسائل الإعلام المستقلة بشكل حقيقي مثلاً، أو على مدى سهولة (وسلامة) القيام بتظاهرة كبيرة معادية للحكومة.

هذه هي الحريات التي يمكن أن ينجم عنها ديمقراطية حقيقية. وإلى أن تظهر هذه الحريات سيتوجب على الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي ومنظمات المساعدة وغيرها من الجهات المانحة مواصلة الضغط من أجل التغيير.

بروس بينو دي مسكيتا-رئيس قسم السياسة في جامعة نيويورك وعضو في معهد هوفر 

جورج داونز-أستاذ السياسة وعميد كلية العلوم السياسية في جامعة نيويورك.

المصدر : ICAWS-24-8-2005