تجربة جنوب أفريقيا في تدوين الدستور
وضع الدساتير الديمقراطية: تجربة جنوب أفريقيا بقلم فيفيان هارت شكلّت العملية الدستورية في جنوب إفريقيا إحدى أولى جهودها القومية الفعلية الرامية إلى تشجيع مشاركة جميع قطاعات مجتمعها الذي كان مُنقسماً قبلاً. تُعير الكاتبة عناية خاصة للأساليب والإجراءات التي شجّعت تلك المشاركة، وللوقت الذي استغرقه التوصّل إلى اتفاق حول الدستور الجديد. هذا المقال مُقتطف من "التقرير الخاص: وضع الدساتير الديمقراطية"، الذي كان قد أصدره المعهد الأمريكي للسلام. تقوم الدول النامية في إفريقيا وفي أماكن أخرى من العالم، باختبارات حول هيكليات وأشكال جديدة من المشاركات لشعوبها في محاولة منها لتطوير عملية انفتاح تهدف إلى وضع المبادرة في أيدي المواطنين، والى خلق حوار دستوري. وقد بدأت تلك البلدان، في العديد من الحالات، بإطلاق عمليتها هذه على أسس جديدة تماماً بدلاً من العمل ضمن الإطار القائم من الإجراءات والسوابق القانونية. مثلاً، يعتبر دستور جنوب إفريقيا لعام 1996 نموذجاً ومثالاً للنصوص الدستورية. وكذلك الأمر بالنسبة للعملية التي أدت الى وضع هذا الدستور التي قوبلت بالترحاب بصفتها شكلت جزءاً أساسياً من المرحلة الإنتقالية الناجحة التي انتقلت بالبلاد من القمع الذي مارسه نظام التمييز العنصري الى المجتمع الديمقراطي. تُظهر المعالم التالية لهذه العملية في جنوب إفريقيا السياق والتحديات التي رافقت وضع هذا الدستورالديمقراطي، وتؤمن الأرضية لتقييم الإمكانيات الكامنة العامة وكذلك مشاكل تلك العملية. المفاوضات حول إجراءات العملية استغرق إنجاز الدستور النهائي سبع سنوات، من 1989 الى 1996، كما انقضت حوالي خمس سنوات بين أول اجتماع ضمّ نلسون مانديلا، زعيم المؤتمر الوطني الإفريقي، وبك دبليو بوتا، رئيس الوزراء، سنة 1989، وبين الاتفاق على الدستور المؤقت وأول انتخابات غير عنصرية سنة 1994. وتخللت تلك الفترة انفجارات لأعمال العنف هدّدت العملية الدستورية. في المرحلة الأساسية بين سنة 1990 و1994: أجريت المفاوضات حول الاتفاقات المتعلقة بالعملية الدستورية خلال دورات خاصة وعامة بين الخصوم السابقين. وشملت تلك المفاوضات الاتفاق على التفاوض بشأن المفاوضات الدستورية؛ ونقاشات طويلة حول الشكل الذي يجب ان تأخذه عملية وضع الدستور؛ كما شملت، سنة 1993، اتفاقيات حول الإجراءات، وشملت، في خاتمة المطاف، اتفاقاً حول دستور انتقالي يتضمن مبادئ وإجراءات مُلزمة بالنسبة لعملية وضع الدستور النهائية. وفي نيسان/إبريل 1994 : أجريت أول انتخابات برلمانية غير عنصرية شارك فيها حوالي 86 بالمئة من الناخبين، وفي أيار/مايو من تلك السنة، اجتمع البرلمان الجديد لأول مرة بصفته جمعية تأسيسية. في أواسط التسعينات من القرن الماضي، أصبحت العملية الدستورية في جنوب إفريقيا المثال الكامل لعمليات وضع الدساتير القائمة على مشاركة المواطنين فيها. حتى ذلك التاريخ، لم يكن لعامة الناس دور مباشر في وضع الدساتير، أما في هذه الحال فقد بادر ممثلو الشعب المنتخبون الممثلون في الجمعية التأسيسية الاتصال بالناس وتثقيفهم ودعوتهم لإبداء وجهات نظرهم. وتَضمّنت الجهود التثقيفية هذه حملة في وسائل الإعلام، وحملة إعلانية في الصحف، ومحطات الإذاعة والتلفزيون ولوحات الإعلان، وعلى الحافلات، وكذلك في صحيفة تنشرها الجمعية التأسيسية وتوزع 160,000 عدد، وفي رسوم كرتونية، وموقع على الانترنت، واجتماعات عامة؛ وطالت تلك الجهود مجتمعة حوالي 73 بالمئة من السكان. وتلقت الجمعية التأسيسية، بين سنة 1994 وسنة 1996 : مليوني اقتراح أو طلب من جانب الأفراد، ومجموعات المناصرة والدفاع، والجمعيات المهنية، وأصحاب المصالح الأخرى. وفي المرحلة الأخيرة، وبموازاة الحملة الداعية الى مشاركة المواطنين، صاغت لجان الجمعية التأسيسية المختلفة دستوراً جديداً ضمن المعالم التحديدية المرفقة بدستور سنة 1994 الانتقالي. نشرت أول مُسودّة عمل في تشرين الثاني/نوفمبر 1995، تاركة جانباً 68 موضوعاً يتم بحثها لاحقاً؛ وتم إنتاج مسودّة معدّلة في السنة التالية كما تم وضع النص النهائي في أيار/مايو 1996. راجعت المحكمة الدستورية النص النهائي بين تموز/يوليو وأيلول/سبتمبر 1996، ثم أعادته الى الجمعية التأسيسية لإدخال بعض التعديلات عليه، التي تمت في تشرين الأول/أكتوبر. وفي تشرين الثاني/نوفمبر، أعطت المحكمة مصادقتها النهائية، وفي كانون الأول/ديسمبر، وقّع الرئيس مانديلا على الدستور ليصبح قانوناً. إقامة الحوار وبناء الثقة استغرقت العملية الدستورية في جنوب إفريقيا ردحاً من الزمن. فقد تمّت على مراحل، واستفادت من الدستور الانتقالي الذي أتاح استمرارية الحوار خلال المرحلة الانتقالية. دُعي المواطنون للمشاركة في الوقت المختار المناسب بدلاً من أثناء العملية بأكملها. ومن ثم جرى توفير روح الابتكار والموارد اللازمة لتسهيل الحوار الجدّي. أما الثقة بان نتائج الحوار سوف تتوافق مع المبادئ الديمقراطية لسنة 1994، فقد أوجدها استمرار المحادثات والنقاش ما بين فترة التصديق القضائي والموافقة النهائية من جانب البرلمان. وجدت المجموعات المختلفة، بما فيها النساء والقيادات التقليدية (القبلية)، لها صوتاً ووسيلة للوصول إلى المسؤولين، وسعت للتأكد من أن مصالحها تؤخذ في الحسبان. وكان من الأمور الهامة أيضاً وجود مجتمع مدني في جنوب إفريقيا بإمكانه أن يشكل قوة موازنة للانقسامات السياسية والعنصرية والحزبية الراسخة. وشملت العوامل الهامة الأخرى التي ساندت العملية الرسمية، الصبر، وعلى الأخص بوجه العنف، وكذلك رغبة جميع المعنيين في اتخاذ بعض الخطوات الجريئة، ومزيج من المفاوضات بعيداً عن الأنظار بشأن بعض أكثر القضايا صعوبة، رافقها : انخراط لا سابق له من جانب عامة الناس وحده الالتزام بتوفير الوقت الكافي والموارد الكبيرة اللازمة يمكن المشاركة الحقيقية للناس. فحتى لو اعتبرنا ان بداية انطلاق جنوب إفريقيا في هذه العملية كانت وقت الاتفاق على التفاوض بشأن العملية الدستورية سنة 1991، فان عملية وضع الدستور في هذه الحالة الناجحة جداً استغرقت خمس سنوات على الأقل. وقد يقول العديد من الناس ان العملية الدستورية كانت جارية قبل ذلك التاريخ بسنتين، أي منذ ان بدأ القادة مقاربات اختبارية لكسر الحاجز العنصري؛ ومن الواضح ان جزءاً من العملية كان بناء مستوى كافٍ من الثقة بين النخبة وبين الجمهور لإقامة المحادثات الدستورية. تختلف أنماط مشاركة المواطنين كثيرا فليس هناك نمط واحد يناسب جميع الدول فقد انتخبت جنوب إفريقيا برلماناً عَمِل كجمعية تأسيسية. وسعت جنوب إفريقيا الى مشاركة الرأي العام عبر قنوات متنوعة، واستخدمت وسائل الاعلام بطريقة بارعة، وابتكرت المواد اللازمة لوضع القضايا الدستورية في متناول الناس بعدة لغات. غير ان الشعب لم يكن منخرطاً بصورة متساوية في جميع مراحل العملية الدستورية في جنوب إفريقيا كما وفي العمليات الأخرى. ففي الوقت الذي كان باستطاعة الإفريقيين الجنوبيين متابعة تقدم المفاوضات العامة لغاية سنة 1994، تم حل بعض الحالات المستعصية الحاسمة التي ظهرت خلال المفاوضات في اجتماعات سرية. دُعي جميع أفراد الشعب أولاً إلى المشاركة في انتخابات سنة 1994، التي هي أكثر أشكال المشاركة المألوفة. وكان هذا العمل عملا جبّارا في السياق الإفريقي الجنوبي حيث كانت أغلبية السكان في السابق مستثناة من المشاركة لأسباب عرقية. لقد صوّت حوالي 86 بالمئة من السكان، وقد أثبت عدد المقترعين، وكذلك عدد المقترحات التي عُرضت على الجمعية التأسيسية : ان الشعب يشارك عندما يرى ان القضايا المطروحة والنتائج مهمة. فيفيان هارت أستاذة باحثة في جامعة ساسكس حيث خدمت سابقاً كمديرة لمركز كانليف الجامعي لدراسة النهج الدستوري والهوية القومية، وهي شبكة أبحاث دولية يشارك فيها بحاثة ونشطاء من المملكة المتحدة، وأوروبا، والولايات المتحدة، وكندا، وجنوب إفريقيا، وسري لانكا وجزر فيدجي. صدر كتابها ". النساء واضعات الدساتير"، الذي نشرته مع الكسندرا دوبروفولسكي، في تشرين الثاني/نوفمبر 2003. كانت هارت عضوا في برنامج جنينغز راندولف للسلام الدولي سنة 2002 - 2003 التابع للمعهد الأمريكي للسلام. إختيار وإستعراض: عفاف حسين. ملاحظة: المقالات تُعبر عن رأي أصحابها. المصدر: النهج الدستوري و الديمقراطيات الناشئة .
|