رؤى الفلسفة وأوهامها تأليف: جان بياجيه ترجمة: د. هناء سليمان تقديم: هذه هى ترجمة للمقدمة التى كتبها جان بياجيه لكتابه رؤى الفلسفة وأوهامها، وهو يعرض فيها الأفكار الأساسية للكتاب وفيه يناقش مسألة: هل للفلسفة نمط خاص للمعرفة؟ وهو يصل الى أن الفلسفة هى حكمة وأيمان عقلى. وهو رأى قد نختلف معه حوله، ألا أن مبرراته التى قدمها شديدة الأهمية لأن صاحبه - وهو عالم متخصص فى علم النفس و نظرية المعرفة - وصل الى اقتناعه هذا بعد ممارسة طويلة فى مجاله وفى مجال الفلسفة أيضا. ولعل القارئ يدرك معنا - مهما كانت حدة الاختلاف - بصدق الموقف الشخصى، وأمانه الموقع التاريخة الذى يتحدث هذا الرائد الفذ من منطلقه . من الادعاء أن أقول ان هذه الدراسة مفروضة على كواجب، ولكن ربما يمكننى القول بأنها استجابتى الخاصة لحاجة ملحة ومتزايدة، ان الفرض هنا بسيط ، ولصيق بالأرض فى بعض الجوانب: “ الفلسفة - كما ينطوى على ذلك اسمها - هى: حكمة، يجدها الانسان - بوصفه كائن عاقل - يجدها أساسية لتنسيق نواحى نشاطه المختلفة، ولكنها ليست معرفة بالمعنى الدقيق، تمتلك ضمانا وطرقا للتحقيق مميزة لما يسمى عادة “معرفة”. وأنا ان كنت قد عشت مطمئنا بمثل هذا الاعتقاد، كما يفعل كل الذين يبقون على أطراف الفلسفة دون أن يأخذوا بها، فاننى أرى الآن أهمية تقديم تبرير صريح لهذا الفرض، فى ضوء الأخطاء اليومية التى يؤدى اليها اغفاله. لقد كنت على وفاق طيب مع الفلاسفة، خلال عملى كباحث فى علم النفس، ونظرية المعرفة، وقد شرفونى بصداقتهم وثقتهم التى قدرتها كثيرا. لقد كنت مواجها فى كل يوم تقريبا بالصراعات التى تحد من سرعة تطور فروع الدراسة التى تحاول ان تكون علمية . ولقد وصلت الى اقتناع بأن المرء يكتشف المشكلة نفسها فى أشكال مختلفة، مهما كانت العوامل الجماعية والفردية فى مواقف شديدة التعقيد، سواء أكانت جامعية أو أيديولوجية، معرفية أم أخلاقية تاريخية أم حالية ..... الخ ، تلك الآشكال كما تبدو لى تثير سؤالا يتعلق ببساطة بالأمانة الفكرية: تحت أى شروط يستطيع المرء أن يتحدث عن المعرفة وكيف يكون بمأمن من المخاطر الداخلية والخارجية المحدقة بها دائما ؟ وسواء أكان الأمر متعلقا بالعوامل الداخلية أو بالتقييدات الاجتماعية، فان تلك المخاطر تدور داخل نطاق واحد، تتغير بشدة خلال الزمن، ولكنه شديد الأهمية لمستقبل المعرفة: انه الحد الذى يفصل بين التحقيق والتأمل. ان سؤالا عن طبيعة الفلسفة: أهى ضرب من الحكمة أم أن لها شكلا للمعرفة خاصا بها، لهو سؤال حيوى لم يعد مجرد مشكلة نظرية أو أمرا غير ذى أهمية لواحد واجه هذه المشكلة دائما خلال ممارسته أنشطته المهنية. ذلك أن هذا السؤال شديد الأثر فى نجاح أو فشل كثير من الدارسين. ان الفلاسفة صغار السن يعتقدون أنهم وصلوا بسرعة لأعلى مناطق المعرفة (ذلك أنهم - فور دخولهم الجامعة - يتخصصون فى فرع لم يتسن لأعظم المفكرين فى التاريخ أن يتخصصوا فيه الا بعد سنين طوال من البحث العلمى، فى حين أنهم - وفى بعض الأحيان أساتذتهم أيضا - ليست لديهم أدنى خبرة للوصول الى جزئية محدودة فى المعرفة ناهيك عن تحقيقها. وينحسب ذلك أيضا على كل هؤلاء الذين يدرسون فروعا علمية متعلقة بعقل الانسان بشكل مباشر أو غير مباشر، والذين يتوقف مستقبل مجرى حياتهم العملى على مسألة التبعية للفلسفة أو الاستقلال عنها . قد يكتفى المرء - بطبيعة الحال - بتناول تلك المشكلة بشكلها المجرد متسائلا: هل يوجد نمط نوعى للمعرفة قاصر على الفلسفة أم لا ؟ وهل له معايير مناهج بحث تميزه عن المعرفة العلمية تستحق أن تسمى معرفة؟ واذا افترضنا الاجابة بنعم، فما هى تلك المعايير والخواص وما هى اجراءات التحقيق التى تقود اليها؟ وهل لتلك الاجراءات فعالية حقا؟ وهل كانت ناجحة فى أى وقت لوضع حد للجدال الدائر حول نظرية ما؟ قبل جميع المعاصرين عدم صلاحيتها، برفضها وبوضع تبريرات كافية لذلك الرفض تقود الى اتفاق فى صالح نظرية ناجحة؟ تلك بالقطع هى نوعية المشكلات التى يجب أن نتناولها بالرغم من أننا نكون قد حددنا لأنفسنا مناقشة عامة متعلقة بنظرية المعرفة بشكل خاص . ولكن المسألة أكثر اتساعا وأهمية، لأنها اجتماعية وسيكولوجية بنفس القدر التى تتعلق به بعلم المعرفة، وهى تمس جذور أيديولوجياتنا، كما تمس بنفس القدر وربما أكثر ، أوضاع نشاطنا العقلى . ليست “ الفلسفة” ببساطة هى ما يشغلنا فى الواقع، ولكنها مجموعة من العوامل التاريخية والاجتماعية شديدة التعقيد، تلك العوامل التى جعلت من الفلسفة مؤسسة فى كل من المدرسة والجامعة، بكل ما يحتويه ذلك من تقاليد وسلطة توجيه للعقول، وفوق كل شئ تحديد لمجرى حياة الكثيرين. وعلاة على ذلك: فقد أصبحت الفلسفة فى كثير من البلدان ضربا من الممارسة الروحية، تمارس وهى محاطة بهالة وهى وان كانت غير مقدسة تماما، فانها تضفى عليها نوعا من المكانة الرفيعة تجعل من أى تساؤل بشأنها “ دليلا بذاته” Ipso Facto على نزعة وضعية ضيقة الأفق أو افتقار فكرى الى الفهم وبالرغم من ذلك، فان للفلسفة حقها فى الوجود Raison deter ويمكن للمرء أن يلاحظ أن واحدا ليست له معرفة ما بالفلسفة لهو غير متعلم الى حد ميئوس منه .ولكن ذلك لا أثر له فى مسألة”مرتبة الحقيقة” بالنسبة للفلسفة وفى الوضع الراهن للمؤسسات والآراء، يتطلب الأمر”شجاعة فلسفية” لمناقشة مجال الفلسفة، بل وأيضا مسألة ما اذا كانت تتوصل الى”معرفة” بالمعنى الكامل للكلمة. ذلك أن المرء يخاطر بالسير فى عكس اتجاه قوى عنيدة عميقة الجذور خاصة بالوعى الأجتماعى وبوعى كل فرد أصبحت الفلسفة له بمثابة سند ضرورى للدين أو بديلا عنه . وإذا كان الأمر كذلك ، واذا كان الأيمان”بمعرفة” فلسفية مرتبطا عموما بمجموعة معقدة من الداوفع الفردية والاجتماعية، فلا حاجة للقول هنا بأن كاتبا يضع سمة المعرفة تلك موضع التساؤل ، ويقتنع بأن الفكر الميتا فيزيقى يختزل نفسه الى حكمة أو ايمان عقلى، لهو بالضرورى واقع تحت تأثير عدد وافر من الدوافع، وفى مناقشة كتلك، يدخل فيها كل واحد بدرجة أو بأخرى، يكون من المستحيل أن يضع المرء نفسه”فوق الصراع”، وتبقى الموضوعية هنا أكثر منها فى مجالات أخرى غاية ضرورية لايمكن تحقيقها الا بصعوبة. ويبدو لى أمرا جوهريا أن أطلع القارئ على المعطيات اللازمة التى تمكنه من الحكم على وجهه نظره ، وسأتناول أولا وضعا تفصيليا ان لم يكن اعترافا للتحرر من الانبهار الذى جعل ممن أوشك على أن يكون فيلسوفا عالما نفسيا ومتخصصا فى نظرية المعرفة الخاصة بتطور الفكر، ورغم أننى واع تماما بحقيقة أن النفس مكروهة ، وأن كل واحد يعتقد مع أندريه جيد أنه”..... لو لم تكن ذاتى،لأحببتها فى شخص آخر” الا أن المرء يصبح قادرا على فهم أسباب مواقفه فقط حينما يرجع فيستعيد تطوره الشخصى، ويساعدنا ذلك على تقرير درجة صلاحية تلك المواقف . وبعد ذلك التحليل للخبرة الشخصية سأنتقل الى دراسة العلاقة بين العلم والفلسفة وسنحاول أن نوضح ملاحظة مألوفة تنسى كثيرا وهى أن أكثر النظم الفلسفية أهمية فى الماضى كانت تبدأ من تأملات كتابها الطويلة فى العلم أو فى مشروعات جعلت من العلوم الحديثة أمرا ممكنا. ومن ناحية أخرى فان ذلك هو السبب فى هذا الميل فى تاريخ الأفكار الى أنها تبدأ دائما دون أن تكون علمية أو ميتافيزيقية بشكل واضح ، ثم تصبح بالتدريج أقل ميتافيزيقية، ثم تنشأ عنها فى النهاية علوم محددة مستقلة فى النهاية كالمنطق، وعلم النفس، وعلم الاجتماع ونظرية المعرفة: تلك الفروع التى أصبحت - بشكل متزايد - مهمة العلماء، وكرد فعل ضد هذا التمييز الذى لامفر منه داخل االفلسفة بين الميتافيزيقية (وهى ليست سوى “حكمة” أو ايمان عقلى ولكنها ليست نمطا للمعرفة) وبين فروع للدراسة تعنى بالمعرفة نشأ اتجاه كامل للفكر فى القرن التاسع عشر فقط، كان هوسرل هو أهم ممثل معاصر له، ونزع هذا الاتجاه الى أن يجعل للفلسفة - مرة أخرى - نمطا خاصا للمعرفة يمكن تسميته فوق علمى Suprascientific أو محاذيا للعلم Parascientific حسب وجهة نظر كل . ثم نتناول بعد ذلك قيمة هذا المنهج وبوجه خاص صلاحية هذا النمط المطروح للمعرفة وذلك هو”الحدس” بشكله البرجسونى أو الفينومينولوجى وهما - بالمناسبة - متناقضان . ثم ننتقل الى دراسة مشكلة احتمال وجود معرفة فلسفية، محاذية للعلم فى أشد الأمثلة دلالة فيما يسمى بعلم النفس الفلسفى. ولا أعنى هنا سيكولوجيا فلاسفة الماضى العظام قبل تأسيس علم نفس علمى، بل تلك السيكولوجيا التى يود بعض الفلاسفة تأسيسها على حافة علم النفس العلمى بهدف اكماله واحلالها محله . ولسوف نتناول مسألة مدى صلاحية ومشروعية سلسلة المحاولات البادئة بمين دى بيران والمنتهية بسارتر وميرلوبونتى( وبالمناسبة فان مين دى بيران قد وجه نقده الى تجريبية هيوم لا الى علم النفس التجريبى الذى لم يكن قد نشأ بعد) وتبقى مسألة أخرى قد تبدو ثانوية ولكنها مركزية بالنسبة لهدف هذه الدراسة وهى: هل يحق للمرء أن ينتاول مشاكل واقعية عن طريق التأمل وحده؟ ان هدف هذه الدراسة هو اطلاق صيحة تحذير والدفاع عن موقف وهى لا تزعم أن تكون أكثر من شهادة رجل أغراه التأمل طويلا - بل وكرس له حياته تقريبا - ولكنه فهم مخاطره، وأوهامه، وأخطاءه العديدة ، وهو يود أن يوصل خبراته ويبرر معتقداته التى اكتسبها عبر الألم .
|