كتاب في حلقات:البقيع الغرقد - رحلة الحج عبر خمسين سنة (1)

 

 

إسم الكتاب: البقيع الغرقد

إسم المؤلف: المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى الإمام السيد محمد الشيرازي(رحمة الله عليه)

 

قرن الحدود الجغرافية

نصف قرن مضى، ومضت مقوماته وأسبابه ومسبباته، فاللازم على أن الإنسان أن يجدّد حياته لهذا القرن الآتي حسب تجدّد المقتضيات، وإلاّ صار من المتخلفين الذي يخسرون الدين والدنيا ـ والعياذ بالله ـ .

أذكر قبل ستين سنة كان الذهاب إلى مكة المكرمة يكلّف ثلاثة دنانير فقط (1).

وفي الغالب كانت السيارات تحمل مؤن السفر بالاضافة إلى الخباء الذي كانوا يضربونه خارج المدينة المنورة أو خارج مكة المكرمة، ولم يكن لهم تذكرة ولا جنسية ولا خروجية ولا دخولية ولا ما أشبه هذه الأمور المستوردة من الغرب وكذلك كانوا يأتون من ايران أو يذهبون إليها بدون كل ذلك وكأنك تسافر من النجف الأشرف إلى كربلاء المقدسة ‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎أو بالعكس وهذا ما فعلته أوروبا أخيراً حيث أسقطت الحدود الجغرافية بينها.

فهم قد أخذوا ما في الإسلام ـ ولو بنسبة ـ ونحن أخذنا منهم المساوئ.. كالحدود الجغرافية ومئات القوانين التي وضعت للسيطرة علينا..

ومَن وضعها في بلادنا  غير عملائهم؟.

والآن حيث أسقطوها في بلادهم، فلماذا بقينا نحن متمسكين وملتصقين بها؟.

نعم:  قال الله عزوجل: (ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا)(2).

وهذا ما رأيناه في الدنيا، ونعوذ بالله من أن ينطبق علينا قوله سبحانه: (ونحشره يوم القيامة أعمى)(3)؟... وذلك اليوم كان البقيع قد هدّم حديثا بأمر من الاستعمار، والمسلمون كانوا يرقبون بناءها كما كانت منذ أكثر من ألف سنة، لكنها لم تجدد.. والى يومنا هذا!.

مع أنه قد مات وذهب عامل خرابه الذي كان المستعمر الماكر، فهل تبقى القبور هكذا خراباً؟

أو يهدي الله المسلمين لتجديدها؟

السلطات غير الشرعية

كان المسلمون يسافرون إلى الحج من مختلف البلاد بدون حد جغرافي أو تذكرة أو تأشيرة أو ما أشبه، ثم وُضعت كلُّ تلك الأشياء، وكلها باطلة عقلاً وشرعاً وقد توسعت بلاد مثل أمريكا والهند والصين، وتقطعت بلاد كما فعلوا بكوريا وبعض البلاد الأخرى، وهكذا فعلوا ببلاد الإسلام فقطعوها وجزّؤوها..

أما رجوع بلاد الإسلام إلى حالتها الإسلامية.. أي إلى الوحدة كما كانت عليها أكثر من ألف سنة، فلم تحصل..  وذلك لجهل الحكام وحرصهم وما أشبه وإلا فالبلاد مع تعدد حكامها كانت كتعدد المحافظات في قطر واحد..

ولكن  بما أن هذا الأمر مناف لغرورهم واستبدادهم لذلك عرقلوا حضور المسلمين في الحج وفي المشاهد المشرفة في المواسم وغيرها وقد أضر ذلك بأعمالهم وباقتصادهم وبتقدمهم في مختلف مجالات الحياة، وحتى بتعارف المسلمين بعضهم مع بعض مما يساعد على حلّ مشاكلهم.

ومن هذه الجهة صارت مكة المكرمة والمدينة المنورة بما يتبعهما ومنها(البقيع الغرقد) تحت سلطتين غير صحيحتين:

1ـ سلطة البلد الذي يريد المسلم السير منه إلى الحج، مثل(العراق).

2ـ سلطة البلد الذي يحتوي على مشاعر الحج والعمرة، ومشهد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الكرام(عليهم أفضل الصلاة والسلام).

وكلاهما على خلاف العقل والشريعة التي قالت: (إنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم)(4).

فكما أن الرب واحد، فالأمة أيضاً واحدة ولا حدود جغرافية بينها.

حجّ الجدة:

قبل ثمانين سنة تقريباً .. ذهبت جدتي إلى الحج، فسافرت من كربلاء المقدسة إلى سوريا.. إلى لبنان .. إلى مصر.. إلى فلسطين.. إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، وقد دامت سفرتها سنة كاملة فسألت عنها عمّا لاقت من الحدود؟

قالت: لم تكن في ذلك اليوم حدود، وقد سافرت في طريقي للحج الى تلك البلاد لمزارات فلسطين وسوريا ومصر وغيرها وقالت: إن سفرتي كانت مثل سفري الآن بين النجف الأشرف وكربلاء المقدسة ولم يكن آنذاك فرق بين السفر براً أو بحراً.

غلادستون والخطة الاستعمارية

قال غلادستون(5) الرئيس البريطاني قبل مائة عام: (إذا أردتم أن ترسخ أقدامكم في بلاد الإسلام فعليكم بمنع الحج ورفع القرآن عن أيدي المسلمين) وقد نجحوا في الأمرين ولو بقدر.

جاء السفير الأمريكي والسفير البريطاني إلى النجف الأشرف لزيارة المرحوم آية الله العظمى السيد أبو الحسن الاصفهاني (قدس سره)، المرجع الأعلى في وقته، وقد كان من المعتاد زيارة السفراء للعلماء الكبار وأطالا الجلوس من دون أن يعتني السيد بهما، فقالا للسيد: نحن جئنا كي نمتثل أوامركم!

لكن السيد كان أذكى من ذلك فلم يطلب منهما شيئاً وأخيراً قال السفير الأمريكي للسيد: إن حكومتي أمرتني بلقائكم كي تطلبوا منّي شيئاً، وأصرّ.

فقال السيد: إذا  كان الأمر كذلك فارفعوا المنع الموجود في ايران عن حج بيت الله الحرام وزيارة كربلاء المقدسة وقد كان البهلوي(6) منع الحج ومنع زيارة الإمام الحسين منذ سبع سنوات وكان يريد إدامة المنع بحجة أن ذلك يوجب ضرر ايران اقتصادياً لصرف المال المحتاج إليه في البلاد العربية الأجنبية‍‍!!.

وكانت زيارة السفيرين للسيد صباحاً، فوعدا أن يهتما بالموضوع وذهبا إلى بغداد، وإذا في عصر ذلك اليوم أعلنت الحكومة البهلوية، فتح الطريقين مما تبين عمالة بهلوي وأنه إنما يعمل بأمرهما فقط.

وقد رأيت أنا إبّان زيارتي الحج ـ وذلك في خدمة الوالد(7) (رحمه الله) ـ أمرين حسنين لكن بعدئذ سمعت برفعهما:

الأول: خلط الحجاج بعضهم مع بعض ـ بما للكلمة من معنى ـ من جميع أصنافهم ومن كل البلاد الإسلامية، حتى أن الوالد(قدس سره) كان يصلي الجماعة هناك .. فكان المأمومون في جماعته من كل لون وبلد ومذهب لكنْ بعد ذلك جعلوا لكل بلد مكاناً خاصاً حيث لا يختلط بعضهم ببعض وذلك بحجة النظم وما أشبه!!.

الثاني: إن جماعة من الحجاج كانوا يحملون معهم الخباء ويسكنون في أطراف المدينة المنورة ومكة المكرمة من دون حاجة إلى استئجار بيت بينما اليوم قد منعوا من ذلك، وهو تضييق للحجاج الكرام حيث أن الفقراء لا يمكنهم الحج لغلاء الأسعار.

ظاهرة توحيد الصلاة

منذ ما يقارب ثمانين سنة سعوا في أن تصبح الصلاة في المسجدين الشريفين خاصة بإمام جماعة واحد معيّن من قبل الحكومة، وقد نجحوا في ذلك، مع وجود كل المذاهب هناك، ولكل مذهب الحق في أداء الصلاة في أوقاتها الخاصة، ولكل مأموم حرية الاقتداء بأي إمام شاء.

وقد بنى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في زمانه في المدينة المنورة سبعة وأربعين مسجداً ، وكانت تقام الصلاة في جملة منها، ولم يدل دليل على أنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أمر الناس جميعاً بصلاة واحدة في مسجده بل عيّن بنفسه الشريفة(أم ورقة) لأن تصلي بالنساء، فمن شاءت كانت تصلي معه(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن شاءت كانت تصلي مع أم ورقة.

وفي زمان أمير المؤمنين علي(عليه السلام) كانت مساجد خاصة بالنساء في مسجد الكوفة، مما يظهر منه عدم حضورهن جميعاً للصلاة معه(عليه السلام) في المسجد.

إن الإسلام دين الحرية إلا فيما استثنى ـ وهو نادر جداً ـ وليست صلاة الجماعة من المستثنى فاللازم أن يرجع أمر الصلاة في الجماعة والفرادى إلى السابق من عهد الإسلام الطويل.. ولو صحت البدعة لصح إجبار الناس على أن يطوفوا بشكل منظم كصفوف عسكرية، ولا شك أنه أجمل لكنه خلاف الحرية.

حاله حال ما إذا أجبر الناس على لبس لباس واحد في الصلاة أو غيرها كما في نظام الجند، أو بأكل الجميع طعاماً واحداً ظهراً أو مغرباً، أو بالسكن في نوع واحد من الدور، أو بألف توحيد وتوحيد مما يخالف قانون السلطنة(8) والحرية.

وكل ذلك خلاف الشرع والعقل وخلاف عمل الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومن جاء بعده من الحكام والخلفاء والى هذا اليوم، وفي كل البلاد الإسلامية وغير الإسلامية حيث تتعدد الصلوات في المساجد الوسيعة في البلاد الإسلامية أو غير الإسلامية.

وهكذا في آفاق البلاد، فان كل بلد بحسبه في الوقت، ولا يصح شرعاً ولا من الناحية العلمية توحيدها، ففي الحديث: (إنما عليك مشرقك ومغربك) (9) وإطلاق الحديث، وسيرة المسلمين أيضا على تعدد أول الشهر حتى بالنسبة إلى أول شهر رمضان وأول شوال، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في(الفقه).

وإلا فالقائلون بالسفور ـ مثلاً ـ يرون أن ذلك أجمل بالنسبة إلى النساء السافرات! فليس كل جميل هو المفروض..بالإضافة إلى أن للاختلاف جمالاً لا يوجد في ما يرونه من الاتحاد، مضافاً إلى أن فيه رعاية ما أوجبه الشرع من حفظ حرية الإنسان وكرامته..فاللازم أن تقام صلوات الجماعة لكل من أراد من مختلف الأئمة والمذاهب في الحرمين الشريفين وفي البقيع الغرقد ومن دون أي محذور، كما كان عليه سيرة المسلمين.

منع الكتاب

كنت أبعث إلى الحج ـ وأنا في العراق ـ كتباً صغيرة لتعريف الشيعة إلى العالم الإسلامي، مثل: (هكذا الشيعة) و: (من هم الشيعة؟) وما أشبه إلى ثلاثة عشر كتاباً (10)، والعالم السني استقبلها بكل رحابة صدر، حيث أن الكتب كانت معرّفة بأصول الشيعة وفروعها بإيجاز لكن الوهابية منعت كل كتاب للشيعة أشد المنع.

فثلاثة أشياء ممنوعة هناك: (الهيروين) و(السلاح) و(كتب الشيعة) أما الهيروين، فلهم الحق لأنه يفسد الجسم والروح وأما السلاح، فليس من سبب في منعه، فالإسلام لم يمنعه، وإنما كان المسلمون يحملون السلاح في كل زمان، ثم خطط المستعمرون لنزع السلاح من الشعب حتى يسيطروا على البلاد بعملائهم وإني أذكر في أيام الملكيين في العراق كان السلاح مباحاً للجميع، والى الآن في أمريكا السلاح الخفيفة متعارفة، وهكذا في بعض البلاد الأخرى وليس السلاح مهماً الآن، بل إني قائل بـ(اللاعنف) كما ذكرته في بعض الكتب.

وإنما المهم(الكتاب) فلماذا المنع؟ وفي القرآن الكريم ـ وهو الأصل في دين الإسلام ـ أشير إلى أدلة اليهود والنصارى والمشركين ومن إليهم ولم يتصور أحد أن ذلك يضرّ بدين الإسلام وهكذا كان الحال في التوراة والإنجيل..واليوم في العالم المسمّى بالحر، سواء في الشرق كالهند أو في الغرب كأمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، حيث لا منع للكتاب إطلاقاً.. فكيف يكون مركز الوحي ـ الذي يجمع المسلمين في كل عام من شتى بقاع الأرض ـ  يمنع فيه العلم والكتاب، خصوصاً ما يوجب تعريف المسلمين بعضهم إلى بعض!!

وقد رأيت كتاب(هورال المولال) الذي ألفه البعض ضد إسرائيل وبيّن فيه كيفية هدم إسرائيل، مع ذلك لم تتمكن إسرائيل من منعه، والكتاب مطبوع متداول في إسرائيل، وفي البلاد العربية وهكذا رأيت كتاب(إسرائيل ذلك الدولار الزائف) وهو متداول في العالم وفي إسرائيل بالذات ولعل البعض كان يتصور أن لمنع الكتاب في العالم السابق  وجه.. أما منعه اليوم و في عالم منفتح والذي اصبح كقرية واحدة فهو بلا دليل إطلاقاً.

مضافاً إلى انه لم يُر ضررٌ  للكتاب بل العكس هو الصحيح، وذلك:

أولاً: لأنه بكتاب الضد ـ فرضاً ـ يتجلى الضد أكثر فأكثر، إذ(وبضدها تتعرف الأشياء) وببيان الحق يظهر زيف الباطل.

وثانياً: الكبت يولّد الانفجار، أما عدم الكبت فلا، ومن هنا: كان الحزب الشيوعي في الغرب الرأسمالي مجازاً ولا يتمكن أن يفعل أيّ شيء وفي لبنان، الكتاب مجاز بكل أشكاله وصوره، فهل تمكن الكتاب أن يوجد خللاً في البلاد أو تحريفاً للمسيرة، بل بالعكس .. الفوضى نتيجة الكبت، والإنسان حريص على ما منع، بالاضافة إلى سوء السمعة العالمية.

أما ما كان من الارهاب العملي وحرق المكتبات وما أشبه فقد انتهى دوره كما في قصة المغول والقرون الوسطى في أوروبا وفي بعض البلاد أحياناً، فقد ولّى من غير رجعة.

فاللازم الاهتمام حتى تتحرر تلك البلاد الطاهرة المشتملة على بيت الله الحرام وحرم رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) والبقيع الغرقد من هذه المشكلة التي انقضى زمانها بلا رجوع.

نسأل الله سبحانه إيقاظ المسلمين وهدايتهم إلى السبيل القويم.

..........................................

 الهوامش:

1 ـ وكان يشترى بالدينار ما يقارب ألف خبزة، وكانت أربع خبزات بكيلو تقريباً

2 ـ سورة طه: 124

3 ـ سورة طه: 124

4 ـ سورة الأنبياء: 92، وسورة(المؤمنون): 52.

5 ـ وليم بــووارت غلادستون: سياســي بريطاني زعيم حزب الأحرار ورئيس وزراء بريطانيا في الأعوام(1868ـ1874م) و(1880ـ1885م) و(عام 1886م) و (1892ـ 1894م)

6 ـ رضا خان بهلوي (1295 ـ 1363هـ = 1878 ـ 1944م) شاه إيران(1343 ـ 1359هـ = 1925 ـ 1941م) كان ضابطا من ضباط الجيش الايراني فاطاح بأسرة قاجار الحاكمة وأعلن  نفسه شاهاً على إيران عام 1925م، وحكم البلاد بالاستبداد، ثم اضطر إلى التنازل عن العرش لابنه محمد رضا بهلوي

7 ـ وهو سماحة آية الله العظمى السيد ميرزا مهدي الحسيني الشيرازي(1304ـ1380هـ) المرجع الديني الكبير في السبعينات من القرن الرابع للهجرة، وللتفصيل راجع كتاب(حياة الامام الشيرازي)

8 ـ قاعدة:(الناس مسلطون على اموالهم وانفسهم) راجع(موسوعة الفقه: القواعد الفقهية): ص135

9 ـ الاستبصار: ج1 ص266 ب149 ح22

10ـ سلسلة ( التعريف بالشيعة ) صدرت بين عامي(1383هـ/1396هـ) اثنا عشر كراساً منها باللغة العربية وواحد باللغة الفارسية، كانت توزع في موسم الحج من كل عام مع ترجمة لأكثرها إلى لغات مختلفة