فضائياتهم... و"تجميل" السياسات!

 

د.خالد الحروب 

 

 

عُقد في جامعة كامبردج مؤخراً مؤتمر حول الفضائيات غير العربية لكن الناطقة باللغة العربية، طُرحت فيه قضايا مثيرة تستحق الإشارة إليها. وعلى رغم أهمية وكثرة النقاشات حول البث الفضائي العربي في السنوات الأخيرة, إلا أن خصوصية هذا المؤتمر كانت في تركيزه على "ظاهرة" إنشاء فضائيات غربية موجهة إلى العالم العربي وتنطق باللغة العربية, مثل "فرانس 24", و"البي بي سي العربية" ( التي ستبدأ البث في مطلع العام القادم على ما يبدو), والتلفزيون الألماني بالعربية ( الدويتشه فيللا ), و"الحُرة" الأميركية, و"روسيا اليوم".

وهناك بعض التقارير تقول إن الصين في وارد إنشاء شبكة إعلامية متعددة الوسائط واللغات على شاكلة "البي بي سي" وسيكون من ضمنها محطة فضائية بالعربية. في نفس المؤتمر الذي عُقد تحت عنوان "البث بلغتهم: شبكات التلفزة الشرق أوسطية والغربية ومشاهدوها" نوقش البث الفضائي الشرق أوسطي الصادر بالإنجليزية والذي يستهدف مشاهدين غربيين, مثل "الجزيرة" الإنجليزية وتلفزيون "برس تي في" الإيراني الذي بدأ البث في يونيو الماضي بالإنجليزية, وهكذا تناول المؤتمر القضية المطروحة في الجانبين الغربي والشرق أوسطي. والمثير هنا هو رصد هذا النزوع المتزايد والمستثمر للسهولة الفنية والتكنولوجية التي صارت توفرها العولمة الاتصالية ووسائلها, وهو وإن كان غير جديد من ناحية المضمون, أي الإعلام بلغة "الآخرين" إذاعياً مثلاً, لكنه جديد من ناحية الكثافة ومن ناحية الشكل, أي البث تلفزيونياً.

أحد أهم الأسئلة التي أراد المؤتمر تداولها والنقاش حولها هو: هل كانت هناك أجندات سياسية وراء إنشاء محطات التلفزة الغربية باللغة العربية, وهو السؤال الابتدائي والمفسر كلياً أو جزئيا لهذا النمط المتصاعد من ذلك الإعلام؟

وهنا فإن ممثلي تلك الفضائيات الذين تواجدوا في المؤتمر كانوا أكثر من متحفِّظين في محاولة التقليل, إن لم نقل الإنكار الكلي, لوجود دوافع وغايات سياسية تريد تلك الفضائيات تحقيقها لكن من المؤكد أن تسمم العلاقات والأجواء العامة بين الغرب والعرب خلال السنوات القليلة الماضية دفع صناع القرار في بلدان تلك الفضائيات للتركيز على فكرة "نقل صورتنا لهم بصورة صحيحة", وهذا ينطبق على الفضائيات الغربية الناطقة بالعربية, والأخرى العربية الناطقة بالإنجليزية.

كما أن من المؤكد أن بعض المشروعات الغربية الإعلامية تأتي في سياق الصراع على النفوذ في الشرق الأوسط بين القوى الكبرى, ومحاولة استمالة القوى والشعوب وحتى الحكومات لهذا الطرف أو ذاك. فمن السذاجة النظر, مثلاً, إلى مشروع "روسيا اليوم" باللغة العربية, أو "الحُرة" الأميركية, أو "فرانس 24" الفرنسية, أو "برس تي في" الإيرانية, وكأنها مشروعات إعلامية خالصة لا تهدف إلا الاشتغال بالإعلام وتقديم خدمات إعلامية تحقق الربح بعيداً عن أية أغراض سياسية.

وبكل الأحوال يمكن النظر إلى هذا "الظاهرة" وبغية فهمها وموْضعتها بشكل أكثر دقة في الفضاء الإعلامي والسياسي العربي من أكثر من زاوية. الزاوية الأولى هي أنها ردة فعل, أو تقليد, للفضائيات العربية التي نجحت خلال العقد الماضي في فرض نفسها كأحد أهم المؤثرين, وربما الفاعلين, في الواقع العربي. ففي ضوء كثرة وانتشار الفضائيات العربية, الإخبارية والترفيهية, وتعلق الناس بها ومتابعتهم لها خاصة في أوقات الأزمات, وما يتركه من أثر الخط التحريري المُتبنى من قبل هذه القناة أو تلك, بدا لكثير من صناع القرار في عواصم الغرب أن البث الفضائي باللغة العربية ربما يكون أقصر الطرق للوصول إلى أوسع قاعدة من الرأي العام العربي للتأثير فيه ومن المعلوم أن زيادة حدة التوتر الغربي- العربي بعد إرهاب الحادي عشر من سبتمبر, ثم غزو العراق, وتصاعد مشاعر العداء للولايات المتحدة في العالم العربي والإسلامي، قد دفع وبإلحاح نحو تبني استراتيجية غربية للظفر بعقول وقلوب العرب!

الزاوية الثانية التي يمكن أن ينظر من خلالها إلى الفضائيات المختلفة الناطقة بلغة "الآخر" بغية التأثير فيه هي الأثر الحقيقي للإعلام مقارنة بالسياسة المتبناة على الأرض. بمعنى، هل يمكن أن يغير الإعلام ما تفعله السياسة, أو أن يخلق صورة مجمَّلة للواقع تتمكن من إحداث تغيير جذري في إدراك الرأي العام لهذه القضية أو تلك؟ أم أن جوهر الخلاف وجذر التوتر والصور العدائية، هنا وهناك، يكمن في السياسة أولاً وآخراً. وأنه من دون إصلاح السياسة وتبني سياسات مغايرة لتلك التي سببت التوتر والعداء, فإن مهمة "التجميل" المنوطة بالإعلام الفضائي وغير الفضائي تبدو شبه مستحيلة. فمثلاً, وانطلاقاً من الفكرة المؤسسة للكثير من تلك المشاريع الإعلامية, وهي فكرة "تصحيح الصورة المأخوذة عنا", كيف يمكن لأي إعلام أميركي باللغة العربية أو حتى باللهجات المحلية العربية، أن يصحح من صورة الموقف الأميركي اليميني المنحاز لإسرائيل؟ كيف يمكن لإعلام فرنسي سواء نطق بالفرنسية أم بالعربية، أم حتى بالدارجة المغربية أو الجزائرية، أن يصحح من صورة الممارسات والضغوطات, وأحياناً العنصريات, التي تواجه الجاليات المغاربية في فرنسا؟ وكيف يمكن لإعلام إيراني ينطق بكل اللغات أن يحسِّن من صورة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد وتصريحاته التي يلقيها هنا وهناك؟ المشكلة الحقيقية إذن تكمن في السياسة, ودور الإعلام يأتي في مراحل تالية, ولا يمكن أن يُناط به ما فشلت في تحقيقه السياسة.

الزاوية الثالثة التي يمكن التأمل من خلالها في انتشار وعمل هذه الفضائيات هي أنها تعمل, عن قصد أو غير قصد, على تعزيز التواصل العربي - العربي وباللغة العربية وهي تكمل ما بدأته الفضائيات العربية التي نقلت استخدام اللغة العربية, الفصحى وشبه الفصحى, إلى مراحل غير مسبوقة في التاريخ العربي. وعلى الرغم من الشكوى وأحياناً التباكي الزائد على اللغة العربية والمخاطر التي تتعرض لها, إلا أن أحد الجوانب الإيجابية التي تقدمها الفضائيات العربية هو الاستخدام المكثف للعربية والتواصل بها, سواء الفصحى أو اللهجات المحلية, بما يحقق تواصلاً عربياً- عربياً ليس داخل العالم العربي فحسب, بل وأيضاً مع عرب المهجر. وعندما تصدر فضائيات غربية ناطقة بالعربية فإن جهودها تندرج أيضاً في ذات السياق الإيجابي.

الزاوية الرابعة, وليست الأخيرة, لقراءة انتشار الفضائيات الناطقة بالعربية (والفضائيات العربية على حد سواء) هي أن هذا الانتشار يمثل دينامية ليست أحادية الاتجاه في قلب العولمة المعاصرة. بمعنى أن الفضائيات العربية, ثم الناطقة بالعربية، صارت تقدم صورة من صور العولمة مغايرة للنمط الكلاسيكي حيث اتجاه التدفقات الإعلامية أو الاقتصادية أو السياسية كان من الشمال إلى الجنوب أو من الغرب إلى الشرق فحسب. فهنا قدم البث الفضائي حالة تدفق "جنوب- شمال", وكذلك "شرق- غرب", وهذا بحد ذاته أمر إيجابي ويشير إلى عدم صلابة عملية العولمة التي ينظر إليها البعض وكأنها نظام مصمَّت وصلْد وأحادي الوجهة.

وكل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا ودون تعليق.

المصدر:الإتحاد الإماراتية-5-11-2007