إعلام مريض
د. عمار علي حسن
تعاني بعض وسائل الإعلام في بلادنا من مرض غياب الحياد بمعناه الإيجابي، إذ إنها لا تتحيز للمصلحة الوطنية العليا، وتصد أي موجات تستهدف مجتمعاتنا ثقافيا، بالدفاع عن منظومة القيم الراسخة في نفوسنا وعقولنا، بل تتحيز لوجهة نظر السلطة والمتحالفين معها والمتحلقين حولها أو المنتفعين منها. كما يتحيز بعضها إلى أجندات خارجية. ويتفانى في العمل لصالحها، حتى لو كان الثمن الإتيان التام على تاريخنا ومصالحنا وخصوصياتنا ومستقبلنا، وبذلك تحل مثل هذه المنابر الإعلامية «سلطة الخارج»، محل «سلطة الداخل» لتقدم إعلامنا مكبلا ومشوها، وإن كان يتمتع بقشرة مهنية زائفة. بوجه عام هناك نوعان من الحياد، ربما رسختهما الممارسة السياسية أكثر من العمل الإعلامي، الأول هو الحياد الإيجابي، الذي يعني عدم الانحياز إلى طرف ضد الآخر، والاستقلالية في القرار، بما ينتج قيمة مضافة تساعد على البناء والتقدم الذاتي. والثاني هو الحياد السلبي، الناجم عن الضعف وقلة الحيلة، والذي لا يريد منه أصحابه سوى تجنيب أنفسهم المشكلات أو حتى أصناف القلق التي تترتب على الانخراط والفاعلية. وفي مجال الإعلام يمكن أن يكون هناك حياد لا يهمل المصالح الوطنية العليا ولا مجموعة القيم والسلوكيات التي توافقت عليها الجماعة الوطنية، ولا يهمل الأهداف والمقاصد الرئيسة للعمل الإعلامي. وهذا النوع من الحياد مرتبط بالموضوعية، باعتبارها إحدى أهم القيم في العمل الإعلامي، والتي تتسع في الممارسة والأدبيات الإعلامية لتشمل قيماً عدة منها: التوازن والمصداقية والحياد والنزاهة. وحسبما يصطلح ويتفق الكثير من الدراسات والأدبيات الإعلامية، فإن غياب هذا اللون من الحياد في إعلامنا يعود إلى أربعة أسباب رئيسية، أولها سطوة السلطة التنفيذية وفرض وصايتها على الإعلام، ويبدو ذلك في صور شتى تتجلى في فرض قيود على حرية الوصول إلى المعلومات وحرية تداولها. وفرض قيود على حرية التملك وإصدار المطبوعات وعلى حرية التملك والبث الإذاعي والتلفزيوني وفرض الرقابة على المطبوعات الداخلية والقادمة من الخارج، وفرض قيود على حرية الطباعة والتوزيع والإعلان، وأخرى على حرية التنظيم المهني والنقابي والتحكم في ظروف عمل الصحافيين والإعلاميين من خلال قوانين جائرة تكرس مفهوم سيطرة الدولة وحرمان الأفراد من حق الاختيار. ويصل تدخل الدولة في بعض الدول العربية إلى حد الاحتكار والسيطرة الكاملة، لكنه يقل عن ذلك كثيرا في بعض الأحوال حيث تراقب الدولة أداء المؤسسات الإعلامية عن بعد. ويتعلق السبب الثاني بمشكلة الحصول على المعلومات، فمن المنشأ توجد قواعد لتنظيم حرية تداول المعلومات وتحديد نطاق السرية التي قد تفرض على بعض المعلومات. ويكون حظر المعلومات في حدود معينة، تضيق ولا تتسع، نظرا لطبيعتها ويكون الحظر لفترة زمنية محددة وليس بصورة مطلقة وتعد الشفافية في نظم المعلومات هي الوسيلة الأهم في مكافحة حالات نشر أو إذاعة معلومات ناقصة أو مخالفة للحقيقة. وتضمن قوانين الدول الديمقراطية حماية الحقيقة ليس من خلال إنزال العقاب البدني بالأفراد وإنما من خلال فتح قنوات الحصول على المعلومات وإتاحة قنوات إضافية تضمن حقوق الرد والتصحيح وطلب الاعتذار، وتصل إلى طلب التعويض في حال وجود ضرر مادي أو معنوي ترتب على الخطأ، أو تلك النقيصة. أما السبب الثالث فينصرف إلى التذرع باعتبارات الحفاظ على الأمن القومي، وما أكثرها من حجج. فرغم القوة التي تتمتع بها وسائل الإعلام للعمل على تنمية الوعي الأمني، فإنها تبقى رهينة للمصادر التي تزودها بالمعلومات والتوضيحات والبيانات، والتي هي في الغالب الأجهزة الأمنية التي تمتلك البيانات والمعلومات. وفي ظل العولمة الإعلامية وانتشار القنوات الفضائية الإذاعية والتلفزيونية وشبكات الإنترنت العربية وغير العربية، لم يعد بمقدور أي دولة التحكم في سياسة إعلامها الأمني، كما كان سابقاً، إلا من خلال وسائلها الإعلامية المملوكة لها فقط والتي سوف يترتب عليها عدم مشاهدتها إلا في المناسبات الوطنية المهمة، لذا فالقيود الإعلامية أوشكت على التبخر والتلاشي في ظل العولمة الكونية، وحل بدلاً عنها الانفتاح الإعلامي. وأصبح الحل الوحيد للحد من هذه المشكلة هو إيجاد قنوات فضائية حديثة ومتطورة بأجهزتها ومعداتها وآلياتها وكوادرها البشرية المؤهلة والمدربة لكي تحاول منافسة القنوات الفضائية الأخرى، من خلال جذب أكبر عدد ممكن من المشاهدين، وبالتالي ضمان استمرار العمل الإعلامي قبل أن تصبح هذه القنوات مجرد تكملة عدد للقنوات الفضائية الأخرى. ويتمثل السبب الرابع في القيود الاحتكارية. فمصالح المالكين للهياكل الإعلامية باتت أحد أبرز مكونات الممارسة الإعلامية، ومتطلبات التسويق الإعلاني هي من دون شك العنصر الأهم في رسم هوية البرامج التي تقدمها وسائل الإعلام. وفي شتى ربوع الأرض يقوم المال والأيديولوجيا بالحد من مساحة الحرية والديمقراطية في الإعلام المعاصر على حساب حقوق المواطن المعاصر، وحرية الرأي والتعبير. فالمجموعات الاحتكارية تتصرف بوجودها في شركات الإعلام على أنه أحد ميادين الاستثمار التي تتوقع منها كسواها مضاعفة أرباحها وعائداتها، كما أنها تستكمل عبرها دورة استثماراتها من خلال امتلاك أدوات التسويق والحماية المطلوبة لوجوه نشاطها الاقتصادي الأخرى ولشبكات الأمان السياسي التي تقيمها بتحالفات معلنة، وبفعل تلك الشراكة العضوية بين المال والسياسة، غالبا ما تتحول الملكية لوسائل الإعلام إلى أدوات تدخل وانحياز مباشرين. ومما لا شك فيه أن لجم تفلت قوتي المال والأيديولوجيا لا يتحقق واقعيا بنسب معقولة إلا عبر أنظمة وتشريعات تعطي المرجعيات المستقلة الناظمة للإعلام سلطة عامة للتدخل ولحماية حقوق المجتمع وحريات الأفراد والجماعات. وما يزيد الطين بلة أن إعلامنا لا يقدم كل ما هو مطلوب منه في سبيل تعزيز مبادئ المواطنة وشروطها، فهو في أغلب الأحيان منحاز لرؤى السلطة ومواقفها وتبريراتها للسلوكيات التي تنال من حقوق المواطنين. وذلك في ظل غياب واضح لسياسة إعلامية متحررة من القيود السياسية والبيروقراطية، تراعي التحولات التي يشهدها الناس محلياً وإقليمياً ودولياً وتؤمن حرية في التعبير وتدفق المعلومات وانسياب الأفكار بعد زوال الكثير من العقبات والصعاب، وتطويع معطيات العلم لخدمة الإعلام الحر. وحتى يمكن أن ينتصر الإعلام للمواطنة فلابد أن يشارك المجتمع كله بمختلف طبقاته وفئاته وشرائحه وتوجهات أفراده ومشاربهم في صياغة السياسة الإعلامية. فالإعلام بمختلف وسائله له أهمية بالغة في تعزيز وحماية الهوية الوطنية. والإعلام ليس فقط أغنية أو مسرحية للوطن، بل هو معالجة فكرية أيضاً وحضور وتفاعل ومناقشة صريحة وجريئة لمشكلات البلاد، ومن بينها مشكلة المواطنة التي باتت في حاجة إلى حل ناجع وسريع، لمقاومة استراتيجيات ترمي إلى النيل من وحدة بلادنا، وتكاملها الوطني. *مدير مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط ـ القاهرة و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق. المصدر:UAE-27-7-2007
|