دروس و عبر من تجربة صحفية ناجحة

 

 

جودت هوشيار

 

كلمة لا بد منها

ليس من السهل على أى صحفى حر و مستقل العمل فى صحيفة حزبية مؤدلجة أو صحيفة رسمية موجهة تنطق بأسم حزب حاكم فى ظل نظام شمولى او استبدادى ، لا تنشر الا ما يوافق سياسة الحزب من أخبار مشوهة و منحازة و احكام جاهزة و آراء مسبقة ان كانت صحيفة حزبية او تعمل جاهدة لتبييض عمل الحكومة و تجنب كل ما يتسبب بأقلاقها أو يخالف مصالحها و تلميع صورة ( القائد الضرورة ) ان كانت صحيفة حكومية .

و مما يزيد الطين بلة الحذر الشديد للمشرفين على الصحف الحزبية و الحكومية من تناول أى نقد بناء يوجه الى الحزب او الحكومة او التطرق الى موضوعات محرمة و ما أكثرها فى ظل الأنظمة القمعية مثل قضايا الفساد و انتهاك حقوق الأنسان و غياب الحريات العامة و غيرها و ذلك حفاظا على مناصبهم و امتيازاتهم و هم فى العادة ملكيون أكثر من الملك . و الصحفى الشريف فى مثل هذه الصحف يكون امامه خياران كلاهما مر : اما ان يستسلم لمشيئة السلطة و يخسر بذلك نفسه و حرية التعبير عن آرائه و مواقفه او يترك العمل الصحفى و هو مصدر رزقه الوحيد و مهنته المحببة التى كرس حياته من اجلها .

و لكن عندما يشعر النظام الحاكم بأن الأستمرار فى تكميم الأفواه و قمع المعارضة و انتشار الأستياء و التذمر بين أبناء الطبقات المسحوقة يشكل خطرا على استمراره فى الحكم يلجأ الى اعطاء هامش من حرية النقد للصحافة الحكومية و منح امتيازات اصدار صحف جديدة ( مستقلة ) شكلا و ممولة و موجهة من قبل الحكومة فعلا ، و ذلك لأمتصاص الغضب الشعبى فى الداخل و تجميل صورة النظام فى الخارج .

ولدينا مثل صارح على ذلك ، حبث لجأ النظام الصدامى فى أعوامه الأخيرة الى اصدار عدد من الصحف الأسبوعية التى تتطرق الى موضوعات محرمة او تتناول بالنقد أعمال و قرارات مسؤولين حكوميين من الصف الثالث ( درجة مدير عام فما دون ) .

وهكذا كان الوضع فى روسيا فى فترة ما بعد ( ذوبان الجليد ) حيث اظطرت السلطة السوفيتية تحت الضغط الشعبى و اشتداد عود حركة المنشقيين الى اعطاء هامش من حرية التعبير الى الصحف الثقافية على وجه الخصوص ، لأن المثقفين السوفييت كانوا فى طليعة من كان يتصدى للنظام الشمولى السوفييتى .

و الفرق الجوهرى هنا بين الصحافة ( الأهلية ) الصدامية الغبية و بين الصحافة الروسية الرصينة الذكية ، ان العاملين فى صحف صدام كانوا من المرتزفة الذين دجنهم النظام الفاشى ، اما العاملون فى عدد من الصحف السوفيتية الواسعة الأنتشار ، فقد كانوا من الكتاب و الصحفيين المتعطشين الى الحرية و المتطلعين الى مستقبل افضل لشعبهم .

كان هؤلاء الكتاب الروس من الذكاء بحيث يصعب و ضعهم فى خانة ( المعارضين ) للنظام القائم و من المهارة المهنية بحيث تعجز معها الرقابة الحكومية الصارمة عن ايجاد مآخذ على المفالات و التحقيقات المنشورة فى صحفهم .

و سنتطرق فى الفقرات اللاحقة لتجربة صحفية ناجحة و فريدة ، ربما لا تتكرر فى اى مكان أو زمان آخر و لكنها زاخرة بالدروس و العبر.

فألى الصحفيين العراقيين و العرب الأحرار الذين أرغمتهم الظروف على العمل فى الصحافة الحزبية و الحكومية فى بلادنا أهدى هذا المقال .

صحيفة روسية أسهمت فى صنع الأحداث و تغيير الواقع

لا تكتسب الصحيفة - أى صحيفة - أهميتها و نفوذها من سعة انتشارها و حضورها فى الساحة الأعلامية فحسب ، وانما أيضا و ربما فى المقام الأول من مدى تأثيرها فى اتجاهات الرأى العام و تعبيرها عما يشغل اذهان القراء من قضايا تمس حياتهم و مستقبلهم و مدى اسهامها فى تغيير الواقع نحو الأفضل .

و انطلاقا من هذه الحقائق ، يمكننا القول ان الدور الذى صحيفة " ليتراتورنايا غازيتا " أى " الصحيفة الأدبية " الروسية فى التحولات الجذرية التى شهدها المجتمع الروسى خلال العقود الثلاثة الماضية ، لا نظير له فى تأريخ الصحافة العا لمية .

تأسست " ليتراتورنايا غازيتا " فى عام 1926 كصحيفة تمثل الأدب السوفييتى الوليد ، ثم اصبحت الصحيفة المركزية الناطقة بأسم " اتحاد الكتاب السوفييت " بعد تأسيس الأتحاد المذكور فى عام 1934 .

و قد ظلت طوال أكثر من ربع قرن محدودة التأثير و النفوذ فى ظل الرقابة الأيديولوجية المتزمتة .

و بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى السوفييتى الذى انعقد فى اكتوبرعام 1956 و خطاب خروشوف الشهير فى هذا المؤتمر حول الجرائم الدموية للعهد الستالينى ، وفى أجواء الأنفتاح النسبى فى فترة ما عرف ب( ذوبان الجليد ) حدث تحول مهم فى سياسة الجريدة و توجهاتها و طرأ تغيير كبير فى تحريرها و اخراجها . وصدر أول عدد من الصحيفة فى عهدها الجديد مع بداية عام 1957.

لقد اراد المخططون الآيديولوجيون فى قيادة الحزب آنذاك ايجاد ( صمام أمان ) لتصريف بخار الغليان الذى طال احتباسه و مخاطبة المثقف الذكى و المستقل التفكير الذى تنتابه الشكوك حول مصداقية الصحافة الرسمية و ما تنشره حول الأنجازات المتتالية فى شتى الميادين .

و لكن الواقع أرحب دائما مما يفكر فيه المخططون، فقد تحولت الصحيفة تدريجيا الى منتدى فكرى للمثقفين الروس و اصبحت صفحاتها ميدانا للحوار الفكرى الخصب بين هؤلاء المثقفين و أخذت تنشر نتاجات الكتاب المستقلين فكريا الذين لم تكن السلطة تنظر اليهم بعين الأرتياح و تتناول بالنقد و التحليل ما تحجم الصحافة الرسمية عن الخوض فيه أو التطرق اليه و تثير قضايا تتحاشاها تلك الصحافة و تنظر الى ما وراء الأفق من فوق رؤوس الرقباء الذين لم يكن يفارقهم التفاؤل الحزبى السطحى .

و استطاعت " ليتراتورنايا غازيتا " بمعالجاتها الذكية و لغتها غير المباشرة الحفاظ على خط التوازن الدقيق بين المسموح و الممنوع و خاضت مغامرة معقدة و جريئة فى آن معا و انتصرت على الرقابة فى نهاية المطاف .

و رغم ان ( ليتراتورنايا غازيتا ) ظلت صحيفة سوفيتيت تنطق بأسم اتحاد الكتاب السوفييت و لم تكن قادرة أن لا تكون كذلك و بصرف النظر عن اسمها ، الا أنها أصبحت من الناحية العملية لسان حال المثقفين الروس بكل جدارة .

و يمكن القول أن هذه الصحيفة هيأت الأجواء للتغييرات التى حدثت فى الأتحاد السوفييتى فى ما بعد و نعنى بذلك " البريسترويكا " و ما أعقبها من تحولات جذرية و الأنتقال من النظام الشمولى على النمط السوفييتى الى الرأسمالية الليبرالية .

و بعد انهيار الأتحاد السوفييتى و ظهور صحف منافسة كثيرة و تردى الوضع الأقتصادى فى البلاد و انحياز " ليتراتورنايا غازيتا " الكامل الى التيار الليبرالى، تقلص توزيعها من خمسة ملايين الى اقل من ربع مليون نسخة .

وكان هذا نتيجة حتمية ، ليس لأن القارىء العادى لم يكن قادرا على شراء الخبز ،ناهيك عن اقتناء الصحيفة ، بل لأن " ليتراتورنايا غازيتا " أنساقت كثيرا و أوغلت فى التأييد المطلق للنخبة الحاكمة الجديدة التى رفعت شعارات الديمقراطية الليبرالية و الأقتصاد الحر، فى وقت كان الفساد الأدارى يستشرى فى أجهزة الدولة. و يعانى فيه المواطنون من ضنك العيش نتيجة لتراجع الأنتاج الصناعى و الزراعى و ارتفاع أسعار السلع الضرورية و الخدمات .

و قد اعترف - رئيس تحرير الصحيفة - فى مقاله الأفتتاحى لمناسبة مرور ( 50 ) عاما على صدور الصحيفة بشكلها الجديد ، بأن هيئة تحرير الصحيفة لم تلحظ على الفور أنحراف الليبراليين و لم تفتح صفحاتها - كما كان الأمر فى أواخر العهد السوفييتى - للآراء الأخرى ووعد بتصحيح هذا الخطأ الفادح و ذلك بجعل الصحيفة مفتوحة من جديد لكل المثقفين ، جامعا على صفحاتها كتابا من شتى الأتجاهات و التيارات السياسية و الأيديولوجية و الأدبية و الفنية و معبرة عن كل تعقيدات المرحلة الراهنة التى يمر بها المجتمع الروسى .

و أردف قائلا : ان حرية الكلمة لا تعنى ، حرية فرض رأى معين على الآخرين ، بل اتاحة الفرصة لكل انسان أن يعبر عن رأيه الخاص حول كل ما يجرى حوله و له مساس مباشر بحياته و مستقبله و على " ليتراتورنايا غازيتا " أن تكون محاورا ذكيا لكل مفكر و مثقف و من دون هذا الحوارتظل الصحيفة مجرد أوراق ميتة لا قيمة لها على الأطلاق .