البحث عن «الهيبة» تحت أنقاض العولمة! -1-
زياد بن عبد الله الدريس
«من منّا لم يقدّم يوماً ذاته قرباناً على مذبح الصيت الحسن؟» (1)، بمثل هذا السؤال – النيتشوي - ينفتح باب الحديث عن «المكانة» وحاجة الإنسان إليها، من دون مواربة. إن البحث عن المكانة مطلب فطري للإنسان السوي، الذي ينظر إلى المكانة بحسبانها أمراً علوياً ينبغي التصاعد نحوها إنجازاً إنجازاً. ولذا اعتبر حُسن الصيت حافزاً لحسن العمل. فالإنسان يبقى دوماً محتاجاً - كما يرى نيتشه أيضاً - إلى «قدر من ذاك الطمع بالشرف والاعتبار...، والإشعاع النيّر لحسن الصيت، وذاك الإقرار المتجدد بقيمة المرء وفائدته الذي لا بد منه للقضاء المرة تلو المرة على الارتياب الدفين في صميم قلوب كل الناس التابعين»(2). ولقد أسماها افلاطون – في جمهوريته – باللذة، لذة المجد والفخر، حتى إنه نعت محب الفخر بأنه «يحسب اللذة الناجمة عن المال... واللذة الناجمة عن العلم بخاراً صاعداً، إلا إذا كان المجد ثمرتها»(3). إذاً فمجد المكانة المتطلّعة هو مولّد للطموح وحافز نحو الإنجاز. لكننا عن أيّ مكانة نتحدث، خصوصاً إذا كان الحديث عن المكانة التربوية مكانة التعليم... مكانة المعلم التي عُرّفت في قاموس التربية بأنها «الموقف النسبي للمعلم الذي تؤثر فيه مجموعة من العوامل المهنية والرسمية والاجتماعية وغيرها من العوامل التي تحدد ذلك الموقف»(4). ولم يبتعد عن ذلك كثيراً تعـريف منظمة اليونسكو إذ يـذكـر أن «كلمة «مكانة» كما تم استعمالها بالنسبة للمدرسين تعني المنزلة والتقدير الممنوحين للمدرسين، كما يستدل عليها من مستوى الامتنان والتقدير لأهمية عملهم، ومن قدراتهم على القيام به، والظروف العملية والأجور والمنافع المادية الأخرى الممنوحة للمدرسين بالقياس إلى مجموعات المهن الأخرى»(5). هل هذا التعريف المفصّل للمكانة يكفي لفك الاشتباك بين المكانة والهيبة والقسوة والصرامة؟ وهل يضيف المؤثر الاجتماعي والثقافي معياراً نسبياً لهذه المفاهيم التي تعد مترادفة أحياناً، ومتناقضة أحياناً أخرى؟ «فالأطفال في بعض الثقافات مثلاً، يتم تعليمهم بألا ينظروا في عيون الكبار، لكون ذلك مؤشراً على عدم الاحترام، ومع ذلك فبعض المعلمين الأميركيين يفسر إشاحة الطالب بوجهه على أنه نوع من الغطرسة(6)»! كيف تأولت الهيبة هنا إلى غطرسة، سوى من خلال نسبية المفهوم المتحرك في سياق الحركة الاجتماعية. هل سيفقد المعلم الأميركي هيبته إذا تمكن الطالب من النظر في عيني المعلم، قد يفقد حقاً هيبة النظر، لكنه حتماً سيعوض ذلك بشكل آخر من الهيبة، قد يكون هيبة الإنصات مثلاً، وقد يحدث العكس بالعكس! ويبقى سؤال: ما إذا كانت الهيبة صنو المكانة؟ قد تكون الإجابة الأشمل هي القول بنعم. لكن الصعوبة ستكمن في نوع الهيبة التي تنجح في صنع المكانة... هيبة القسوة أم هيبة الصرامة؟ ربما يكون في مقدورنا من خلال تجارب الحياة المتراكمة الإدراك بأن هيبة القسوة هي ذريعة السلطة دوماً، بينما تفضي هيبة الصرامة إلى المكانة التي نعني هنا، وحتى لو تجاوزنا المفهوم الوحشي للسلطة إلى المفهوم الإداري لها، فإننا يجب أن ندرك أن «أشكال السلطة التي يتم استخدامها تتغير وفقاً للمكان الذي تشغله في مراتبية التنظيمات وكذلك وفقاً لغاياتها. فالسلطة القسرية تهيمن على معسكرات الاعتقال والسجون ودور القسر التقليدية، أما السلطة النفعية فتختص بالمصانع والمصارف وتنظيمات المستخدمين، في حين تسود السلطة المعيارية التنظيمات السياسية والدينية والتربوية»(7)، حيث يتم استخدام وسائل فيزيائية للسلطة القسرية (كالضرب والتهديد بالعقوبات الفيزيائية)، ووسائل مادية (نقداً أو خدمات) للسلطة النفعية، ووسائل رمزية للسلطة المعيارية كرموز الاعتبار والتقديم (8). وفي السياق التربوي حيث التعامل مع الأطفال تبقى السلطة المعيارية هي المهيمنة – أو هكذا يفترض – برموز الاعتبار والتقدير المنقادة بالصرامة التي هي جزء من فطرة التربية والتعليم، لكنها أيضاً الصرامة كتماسك وليست الصرامة كقسوة، إذ إن القسوة إما أن نبالغ فيها أو لا نستخدمها بالقدر الكافي (9). إننا نتحدث عن المكانة هنا – عبر الصرامة – لا بوصفها هبة اعتبارية للمعلم، ولكن بوصفها صورة اعتبارية لجسد التربية وفعالياتها. إذ إن تغييب الصرامة عن التربية بزعم «التسامح» هو تغييب لصرامة التسامح التي ينبغي أن تسود المدرسة، وترشّد من تذبذبها بين منوالي القسوة والتسيب. وينتصر أوليفي ربول لمفهوم الصرامة بحكم صارم يعلن فيه «أن من يقول إن الصرامة فاشية لا يفهم لا الفاشية ولا الصرامة»(10)! وبالنمط ذاته من الثنائية المتنافرة يتحدث فرينه معتبراً «أن العمل المدرسي هو في الواقع مؤلف من العمل واللعب. في المدرسة نلعب لنعمل، لكن من هنا يبدو العمل وكأنه عدول عن اللعب، من العدول إلى المصالحة يوجد هامش»(11). وبالمثل يمكن القول: إن من القسوة إلى التسيّب يوجد هامش، إنه هامش الصرامة. لكن الحديث عن المكانة لا يكتمل دون الحديث عن الهيبة، التي تُعد أحياناً مرادفاً لها، وأحياناً أخرى يتم تناولها بوصفها جزءاً من المكانة. وحتى هنا يتم التعامل مع الهيبة بطريقتين: مرة بوصفها جزءاً من المكانة لاحقاً لها، ومرة أخرى سابقاً لها. والهيبة، التي وصفها غوستاف لوبون بأنها القوة السرية للشخصية هي «عبارة عن نوع من الجاذبية التي يمارسها عمل أدبي أو عقيدة ما» (12). ويمكننا أن نفرز من مشاعر الهيبة في نفوسنا أربعة أنواع: هيبة الاحترام، وهي التي نمنحها للقادة والعلماء والمفكرين، وهيبة الخوف التي تتملكنا أمام رجال الشرطة، وأمام اللصوص أيضاً، وهيبة الإعجاب التي تتقافز تجاه المبدعين والفنانين، وأخيراً، هيبة الصيت التي نشعر بها أمام الرموز والأعلام الذين قد لا نكن لهم احتراماً ولا خوفاً ولا إعجاباً، في نطاق قناعاتنا نحن، في حين أن لهم أتباعاً ومعجبين: سيصيبوننا بعدوى الهيبة لهؤلاء، حتى لو حاولنا إنكارها والتنزه عنها، فإن القليل جداً من الناس هم الذين يقاومون الإصابة بعدواها. والوظيفة الطبيعية للهيبة، أو «الخاصية الأساسية للهيبة هي أننا لا نعود نرى الأشياء كما هي عليه في الواقع، فتنشلّ بذلك قدرتنا على المحاكمة والتقييم»(13)، وقد تتداخل وتتبادل أحياناً أنواع الهيبة – وبالذات الثلاثة الأولى الأساسية – مواقعها تجاه الفئات المستهدفة، فتمتد هيبة الإعجاب تجاه رجل الشرطة الماهر في عملية إنقاذ مصاب أو مطاردة لص، وكذلك تجاه قائد جذاب أو مفكر مبدع، مثلما تمتد هيبة الاحترام نحو المبدع أو الفنان الملتزم بخط فكري محدد، كما قد تمتد هيبة الخوف تجاه القادة المتسلّطين. أما على صعيد العلاقة مع المهيب، فإن هيبة الخوف بالطبع تولّد الرغبة في التباعد والهروب منه، على عكس هيبة الإعجاب التي تمنح الرغبة في القرب والالتصاق من صاحبها. وتكمن هيبة الاحترام في التوسط بين رغبة التباعد ورغبة التقارب، فهي غير مندفعة في البعد والانفصال، لكنها أيضاً غير مندفعة في القرب والاتصال بسبب حالة الوقار التي يكتسبها عادة من رزق هيبة الاحترام. أين تكمن هيبة المعلم إذاً... أم كيف ينبغي أن تكون؟ هل يمكن المجازفة بالقول إن معظم المعلمين يراهنون في علاقاتهم مع التلاميذ على هيبة الخوف، التي تعني، كما سبق القول، رغبة التلميذ في التباعد والهروب من المعلم، وبالتالي قيام الحواجز النفسية المانعة للتعليم التفاعلي بينهما؟ وفي حالات محدودة يمنح التلاميذ معلميهم هيبة الإعجاب التي تعيد تشكيل شخصية المعلم في ذهنية التلاميذ بصورة غير مجدية تربوياً... إن لم تكن ضارة أحياناً. وهو ما يسميه التربوي الشيوعي ماركارِنكو «البحث عن الحب» الذي لا يوافق عليه، بل يرفض أن يمارسه: «شخصياً لم أحاول يوماً اجتذاب حب الأطفال... من الممكن أن يكون أحد أولئك الشيوعيين الصغار قد أحبّني، لكن المبدأ الذي وضعته لنفسي هو أنه عليّ أن أصنع من الخمسمائة طفل الذين أربيهم مواطنين، بشراً حقيقيين، لماذا أضيف أيضاً إلى مخططي هذا النوع من هستيريا الحب؟»(14). وبناءً على ما سبق من علل وأدواء هيبتي الخوف والإعجاب، فإنه لا جدال في القول بأن هيبة الاحترام هي التي ينبغي أن يصطبغ بها المعلمون، إذ ينبغي أن يُحجموا عن أداء دور رجال الشرطة أمام «مجرمين أبرياء»! مثلما يلزمنا أن نتذكر دوماً «أن البيداغوجيا التسلطية يمكن أن تكوّن أفراداً خاضعين أو ناقمين، والبيداغوجيا التساهلية تكوّن أفراداً لا مسؤولين»(15). فهيبة الاحترام وحدها هي التي تساعد في تكوين شخصية التلميذ قبل تكوين مهاراته، إذ «إننا لا نكوّنه من أجل مهنة، إننا نعلمه كيف يصبح رجلاً(16)». إن غمسنا للتلاميذ في مستنقع الخوف بزعم أن هذا الذي سيحقق الفعالية التعليمية، هو في ذات الوقت قتل للروح التربوية على مذبح الفعالية، في وقت غدا «منزلق حضارتنا التقنية يكمن في جعلها من الفعالية قيمة مطلقة!(17)». هل يكفي هذا الكلام المطول عن الهيبة، وتحديداً عن هيبة المعلم، لإعطائها الأهمية اللائقة؟ حسناً لنختمه بمقولة مزعجةلغوستاف لوبون: «فالهيبة التي تصبح عرضة للنقاش، لا تعود هيبة»(18)!! الهوامش: 1- نيتشه: ما وراء الخير والشر، بيروت 1995، ص 109. 2- نفسه، ص 165. 3- أفلاطون: الجمهورية، دار القلم، بيروت (بدون تاريخ)، ص 275. 4- صالح الراشد: واقع المكانة الاجتماعية للمعلم في دولة الكويت، مؤتمر جمعية المعلمين الكويتية عن المكانة الاجتماعية للمعلم في الوطن العربي – الكويت، 189م، ص 24. 5- اليونسكو: مكانة المعلمين... وثيقة لتطويرها، مكتب التربية لدول الخليج العربي – الرياض، 1989م، ص 15. 6- شارلوتي دانيلسون: مهنة التدريس... ممارستها وتعزيزها، مكتب التربية لدول الخليج العربي، الرياض، 2001م، ص 94. 7- جورج لاباساد ورينيه لورو: مقدمات في علم الاجتماع، المؤسسة الجامعية للدراسات – بيروت، 1986م، ص 185. 8- نفسه. 9- اليفي ربول: فلسفة التربية، دار توبقال – الدار البيضاء، 1994م، ص 59. 10- نفسه، ص 63. 11- ليليان موري: فرينه وعلم التربية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر – بيروت، 1993م، ص 121. 12- غوستاف لوبون: سيكولوجية الجماهير، دار الساقي – بيروت 1991م، ص137. 13- نفسه، ص 138. 14- الهامش رقم (11) ص 113. 15- الهامش رقم (9) ص 55. 16- نفسه، ص 79. 17- نفسه. 18- الهامش رقم (12) ص 144. *المندوب الدائم للمملكة العربية السعودية لدى منظمة اليونسكو، باريس. و كل ذلك بحسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصا و دون تعليق. المصدر:الحياة اللندنية-11-6-2007
|