الأوروبيون وحيرة الإصلاح
بيتر فورد
إذا كان الناخبون الأميركيون منقسمين على أنفسهم بالتساوي تقريباً بين "الأحمر" و"الأزرق"، أي بين "جمهوري" و"ديمقراطي"، فإن الصورة السياسية الأوروبية ليست مختلفة كثيراً، ذلك أن الناخبين الأوربيين منقسمون بدورهم إلى فرق متساوية تقريباً، وذلك على خلفية الانتخابات التي شهدها عدد من الدول الأوروبية مؤخراً. لقد كان رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني، الذي قدم استقالته أخيراً يوم الثلاثاء، يأمل على مدى أسبوعين في إنقاذ شيء ما، حيث عمل على التشكيك في الهامش الضئيل الذي خسر به في انتخابات الشهر الماضي بإيطاليا. غير أن الناخبين بالكاد منحوا رومانو برودي ولاية حكومية. والحال أن الإيطاليين عكسوا، في حالة التردد التي أصابتهم يوم الاقتراع، الحيرة التي وقع فيها قبلهم الناخبون في دول أوروبية كبيرة أخرى، ما يبعث على الاعتقاد بأن القارة تسير إلى وجهة مجهولة في وقت تهدد فيه الاقتصادات الصاعدة في أماكن أخرى من العالم ازدهارها السياسي وقوتها السياسية. ففي الخريف الماضي، عجز الناخبون الألمان عن اختيار فائز واضح، مما اضطر "أنجيلا ميركل" إلى جلب حزب "الديمقراطيين الاشتراكيين" المعارض إلى حكومتها الائتلافية. وفي فرنسا تفيد استطلاعات الرأي بتعادل المتنافسين في الانتخابات الرئاسية المقررة العام المقبل. أما في السويد فلم تتمكن مؤسسات استطلاعات الرأي التكهن بنتائج الانتخابات البرلمانية المزمع تنظيمها في سبتمبر المقبل لأن هامش الاختلاف يعادل هامش الخطأ. ويقول "دومينيك موازي"، المحلل بـ"المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية"، وهو مؤسسة بحثية بباريس: "يمكننا الحديث عن أزمة يتخبط فيها النموذج "الديمقراطي"، فالناس يشعرون بالإحباط تجاه السياسة وتجاه حكوماتهم، وبشكل عام يمكن القول إن نظرتهم إلى الديمقراطية قد تغيرت". إلى ذلك، تفيد نتائج الانتخابات واستطلاعات الرأي أن الأوروبيين لا يعرفون بكل بساطة ماذا يريدون في ما يتعلق بالإصلاحات الاقتصادية الرئيسية التي يقول زعماؤهم إنها ضرورية إذا كانت أوروبا ترغب في الخروج من الحلقة المفرغة المتمثلة في بطء النمو وارتفاع البطالة. ومن جانبه، يقول "مارك ليونارد"، مستشار رئيس الوزراء البريطاني توني بلير السابق في السياسة الخارجية: "إن الأوروبيين يرغبون في التغيير ولكنهم يخافون منه. إنهم يدركون أن الأوضاع الراهنة لا تطاق، غير أنهم يخشون أن تؤذيهم الإصلاحات"، وهو في الواقع ما دفع الناخبين إلى إصدار أحكام غامضة جداً خلال الانتخابات الأخيرة. ففي الشهر الماضي، قاد "برودي" تحالفاً من تسعة أحزاب إلى الفوز على تحالف برلسكوني بفارق صغير جداً –متقدماً عليه بـ25000 صوت من بين الـ38 مليون صوت المدلى بها. وفي ألمانيا، عمل "الديمقراطيون الاشتراكيون" جاهدين على استعادة موقع قوي يرغم ميركل على أن تضمهم إلى حكومتها. والملفت أنه في كلا البلدين، تجد الأحزاب الرئيسية التي تتنافس على السلطة من وسط "اليمين" إلى وسط "اليسار" نفسها تتنافس على "الوسط". ففي إيطاليا، فاز برلسكوني في الانتخابات السابقة برئاسة الوزراء على خلفية شعارات الإصلاح التي كان رفعها خلال الحملة الانتخابية، حيث تعهد بعصرنة الاقتصاد الإيطالي وإدخال إصلاحات على نظام المعاشات وسوق العمل. غير أن فشله في الوفاء بهذه التعهدات والأداء البطيء للاقتصاد الإيطالي أصاب العديد من الناخبين بالإحباط. في حين قدم "برودي" مقاربة جديدة، ولكن دون الذهاب إلى حد التهديد بفرض قطيعة تامة مع الماضي. أما في ألمانيا، فقد كانت جهود حكومة "الديمقراطيين الاشتراكيين" –على حذرها- والتي كانت ترمي إلى خفض معونات البطالة وتحرير قوانين العمل، إضافة إلى تفشي البطالة، وراء فقدان المستشار "غيرهارد شرويدر" للكثير من التأييد الشعبي. غير أن صورة "ميركل" كإصلاحية أخافت بعض الألمانيين، ودفع القلق الذي ساور أعداداً كبيرة من الناخبين قبيل عملية التصويت من أن تكون ميركل نسخة أخرى لـ"مارغريت تاتشر" إلى الإحجام عن التصويت لصالحها. ويبدو أن هذه التجربة قد علمت "نيكولا ساركوزي"، السياسي الفرنسي "المحافظ"، الذي من المتوقع أن يقود "اليمين" في المعركة الرئاسية شهر أبريل من العام المقبل، درساً مفيداً. فإذا كان يقدم نفسه على أنه مرشح "القطيعة" مع أوضاع الكساد الراهنة ببلاده، فإنه يحرص في الآن نفسه على النأي بنفسه عن فشل جهود حكومته الشهر الماضي في إصلاح قانون العمل الفرنسي. ويعزو بعض المراقبين هذا النوع من الغموض في زعماء أوروبا إلى الحيرة التي تصيب الأوروبيين بخصوص من ينبغي التصويت له. وفي هذا السياق، يقول "وولفغانغ نواك"، الاقتصادي بـ"المنتدى العالمي" التابع للبنك الألماني "دويتشه بانك": "إن الجميع يعلم أنه لابد من التغيير، غير أن الأحزاب السياسية لا تتحلى بالشجاعة الكافية لوصف مستقبل ممكن"، مضيفا: "إن الناس يعلمون أنهم في حاجة إلى التغيير، ولكن يتعين على الزعماء أن يشرحوا إلى أين نسير، ذلك أنه لا أحد منا سيرغب في التحرك إذا كان معصوب العينين". ومما تجدر الإشارة إليه أن حكام أوروبا حددوا لأنفسهم جملة أهداف في إطار "أجندة لشبونة" –وهي لائحة أهداف تروم تحقيق نمو اقتصادي مستمر وإيجاد مناصب العمل عبر تحرير الأسواق والاستثمار في التكنولوجيا المتجددة. غير أن دولاً قليلة من الاتحاد الأوروبي فقط هي التي اقتربت من تحقيق تلك الأهداف، أو قامت بإصلاحات مرحلية ومتفرقة. وفي تعليقه يقول ليونارد، مستشار بلير المنوه به أعلاه: "إنهم يحاولون أخذ مخاوف الناس بعين الاعتبار"، مضيفاً: "قليلة هي الأحزاب الكبرى في أوروبا التي تتنافس ببرنامج يقوم على الحفاظ على الوضع الراهن. وبالتالي فثمة تشابه ضمني بين مقاربات "اليمين" و"اليسار"، إذ أن الأحزاب تعزف ألحاناً مختلفة حول كيفية القيام بالإصلاح". مراسل "كريستيان ساينس مونيتور" في باريس وكل ذلك بحسب راي بيتر فورد في المصدر المذكور . المصدر : الاتحاد الاماراتيه - ينشر بترتيب خاص مع "كريستيان ساينس مونيتور" – 4-5-2006
|