عندما يتحول الإصلاح إلى ثورة اجتماعية
د. برهان غليون
الإصلاح هو مبدأ السياسة الحديثة وقوامها. ولا يستمد حكم سياسي شرعيته إلا بقدر ما يظهر قدرته على بلورة برنامج للإصلاح والتحسين. فهو البديل الوحيد للثورة في حفظ التوازن والاستقرار، أي في تحقيق التغيير المنشود، لكن بالوسائل السلمية وبالطرق القانونية، وفي إطار الدستور والشرعية القائمين. فكل النظم التي لا تريد تعريض البلاد إلى الهزات والانفجارات مشدودة للإصلاح. وليست للسياسة وللسياسيين وظيفة فيها سوى العناية بالمجتمعات وتحسين عمل هياكلها ومؤسساتها ورفع مستوى كفاءتها وفعاليتها. لكن الإصلاح لا يحصل في الفراغ. والاختيارات ليست عشوائية أو ذاتية محضة. فالتغيير الذي يقصده الإصلاح لا يأخذ اسم الإصلاح، أو ينعكس بشكل إيجابي على عمل النظام المجتمعي، إلا بقدر ما يحقق الغايات الكبرى التي يحددها الاجتماع المدني لنفسه وتقوم عليها شرعيته، وبقدر ما يتفق مع القيم التي اتخذتها الجماعة المدنية كقاعدة لتنظيم سلوك أفرادها في الحياة اليومية. فالتغيير يصبح إصلاحاً إذا سار في اتجاه تحقيق النموذج المثالي (المفترض أو المتخيل للمجتمع الحديث أو الصالح أو الديمقراطي أو الوطني)، وإذا لم يتعارض أسلوب الوصول إليه أو إنجازه مع القيم المرتبطة بهذا النموذج نفسه. إن الإصلاح لا يوجد من دون ثقافة اجتماعية ومجتمعية تصبو إلى التحسين والارتقاء. ويعني الإصلاح اليوم عند جميع الشعوب المنخرطة في تاريخية واحدة هي تاريخية الحداثة، الوصول إلى نظم اجتماعية تعكس إرادة الشعب وتعتمد عليه وتوسع مشاركته في الشؤون العمومية وتحمله مسؤولياته الوطنية والخاصة، كما يعني الارتقاء بطريقة عمل النظم السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية بما يمكن من تحقيق هذا الهدف، وزيادة قدرة الفرد على الاختيار، وبالتالي زيادة قدرته على المشاركة في تنظيم الحياة العمومية. وبالعكس، كل ما يعيق تحقيق هذا الهدف الذي يشكل غاية الاجتماع المدني ومبرر وجوده في العصر الحديث، أي جوهر السياسة أيضا، يمثل تراجعاً عن المكتسبات، وتدهوراً في نوعية الاجتماع المدني القائم، وتقهقراً نحو النظم التقليدية "البدائية" التي تحد من مشاركة الفرد في حياة مجتمعه العمومية، وتفصل بين المجتمع والسياسة، وتكرس سيطرة نخبة أرستقراطية مغلقة تفرض سلطتها بالقوة العارية أو بالاحتيال. من هنا لا تختلف أولويات الإصلاح من مجتمع لآخر. إن للإصلاح أجندة واحدة لكن ما يختلف من مجتمع لآخر هو برنامج الإصلاح، أي الطريق التي يسلكها كل مجتمع والوسائل التي يستخدمها في سبيل الوصول إلى الغاية الواحدة. وتختلف هذه الطريق وتلك الوسائل باختلاف الموارد البشرية والمادية واللامادية أيضا. ثم إن برنامج الإصلاح لا يصاغ في الفراغ وإنما في سياق نظام اجتماعي، بما يعنيه ذلك من اعتبار لتوازن القوى ونوعية النخب السائدة وموقعها ومكانها في عملية التنظيم الاجتماعي نفسها، وكفاءاتها المهنية. فليس الإصلاح نشاطا بسيطا أحادي الجانب. ولا يرتبط توسيع دائرة اختيار الفرد ومشاركته في الحياة العمومية بالشؤون السياسية فقط. إنه يستدعي أيضا، وكشرط له، التنمية الاقتصادية وما تشمله من زيادة فرص العمل والتأهيل المهني للأفراد، كما يستدعي تطوير وسائل التنمية الثقافية والعلمية، بما يمكن الأفراد من الاختيار ومن المشاركة العملية في الحياة العمومية. لكن مصطلح الإصلاح في سياق الثقافة السياسية العربية الراهنة اتخذ محتوى آخر. ولذلك عندما نتحدث في بلادنا عن إصلاح فنحن لا نقصد الارتقاء بأداء الرجال والأجهزة والمؤسسات القائمة، وبالتالي التفنن في إبداع مناهج وأساليب إدارة وتنظيم جديدة فحسب، وإنما عن أمر يشبه التطهير أو معالجة ما تخرب، بصورة متعمدة أو بسبب جهل النخب الحاكمة وانعدام شعورها بالمسؤولية، في المجتمعات. فالإصلاح عندنا هو نقيض الفساد ودواؤه. ويتغير مضمونه وسعته بحسب درجة الفساد القائم وحجمه والوسائل المطلوبة لمعالجته. فهو مرتبط ارتباطا عضويا به ولا يمكن أن يستقل عنه. ومن هنا، بقدر ما يشكل مفهوم الإصلاح نقيضا لمفهوم الثورة والانقلاب ويثير من حوله إجماع كافة تيارات الرأي في البلاد الديمقراطية، يظهر في أعين السلطات والرأي العام في البلاد العربية رديفا للتغيير الجذري، والانقلاب يشمل استبدال أنماط الحكم والممارسات السياسية والقانونية والعلاقات العدائية القائمة بين المجتمع والسلطة. لذلك تميل الحكومات العربية إلى التهرب من استخدامه وتفضل عليه، كما حصل في مشروع الإصلاح الذي تبنته الجامعة العربية عام 2004 ولم يرَ النور، مفهوما آخر، لا يوحي بفعل التغيير، ولا يشير إلى الفساد الدافع إليه، هو التطوير والتحديث، وهو من اختراع نظام عربي وضعه في التداول كي ينفي عن النظام القائم صفة الفساد أو الهرم والقدم، مؤكدا على صلاحيته على العموم، مع القبول بإجراء تعديلات معينة على بعض وظائفه وأداء رجاله. وما يبرر هذا الخوف من استخدام مصطلح الإصلاح واستبداله بمفهوم التطوير والتحديث هو أن الرأي العام الذي فقد إيمانه بالثورات، من دون أن تفقد هذه الثورات نفسها مبرر وجودها، قد وضع فيه ما يشبه الآمال الثورية ونظر إليه كوسيلة لقلب الأوضاع، ولو بطريقة سلمية، بقدر ما أصبح يرى في هذه الأوضاع تجسيداً لفساد شامل، لا يضرب جانباً من جوانب الحياة العامة بقدر ما يشكل نظاما اجتماعيا أو الروح المحركة لهذا النظام. فيبدو الإصلاح في العالم العربي عملية استئصال نظام هو الفساد نفسه لإحلال نظام آخر محله. ولعله لا يوجد اليوم في العالم رأي عام يطابق بين الإصلاح والانقلاب على المناهج وأساليب العمل السائدة، بقدر ما هو الحال في العالم العربي. ومن هنا يتساوى في الوعي العربي الراهن الإصلاح والثورة الشاملة. فهو ثورة اقتصادية تهدف إلى الانتقال من نظام توزيع الغنائم عبر تقسيم العوائد والريوع، إلى نظام اقتصادي قائم على مكافأة العمل المنتج والمبدع. وثورة سياسية ترمي إلى إخضاع سلطة الحكم الشخصية المطلقة والمزاجية أحياناً، وبالتالي غير الخاضعة لقانون أو محاسبة أو مساءلة، إلى سلطة مستندة إلى قواعد قانونية وسياسية مرعية، تضمن مشاركة الرأي العام في اتخاذ القرارات الوطنية. وثورة ثقافية وتعليمية تعمل على تغيير القيم والتوجهات والاستعدادات التي طبعت الفرد بالسلبية، وعززت لديه انعدام الثقة والعدوانية والانطواء على الذات، والتعلق الأحادي الجانب بالمصالح الخاصة، والاستهتار بالآخر وبالمصالح الجماعية، واستبدالها بقيم واستعدادات إيجابية قائمة على التفاهم والتعاون والتضامن، كما تعمل على إحلال مناهج التكوين والتأهيل والبحث العلمي التي انحسرت محل مناهج الاقتداء والحفظ الاجترارية. وهو ثورة إدارية تسعى إلى إعادة إخضاع البيروقراطية، التي تكونت كطبقة طفيلية، أو كعلقة على جسم الإدارة المدنية والعسكرية، لهدف خدمة المجتمعات، وإلزامها بتحقيق أغراض عمومية، وردعها عن استخدام مواقعها الاستثنائية، والسلطات والصلاحيات المخولة لها في سبيل خدمة مصالحها الذاتية فحسب. وهو ثورة قضائية تهدف إلى ضمان حد كبير من النزاهة في تطبيق القانون وتحرير العدالة من تبعيتها واستلابها للرشوة المادية والمعنوية. وهو أخيرا ثورة دستورية وقانونية ترمي إلى إعادة النظر بنماذج توزيع الصلاحيات والسلطات وممارستها على جميع المستويات، كما ترمي إلى إعادة إخضاع الدولة وأجهزتها لإرادة المجتمع وترتقي بالممارسة السياسية والمدنية إلى مستوى المعايير الدولية. وكل ذلك بحسب رأي دز برهان غليون في المصدر المذكور. المصدر: الإتحاد الإماراتية-12-4-2006
|